بقلم/ مهند عبد الحميد
التعامل الفلسطيني مع مناسبة انقضاء ربع قرن على اتفاق أوسلو لا يوحي بأنه جرى استخلاص الدروس التي تسمح بتجاوز النهايات السياسية الكارثية. فليس مهماً وصف ما جرى، لأن النتائج على الارض أصبحت بمستوى يفوق كل الوصف، وليس مهماً ان ترفض الاتفاق الذي قضى نحبه تقريباً ولم يبق منه راهناً إلا ما يتماشى مع مصالح دولة الاحتلال. التبرير أو الاكتفاء بالهجوم على الاتفاق بعد رسوخ الجانب التطبيقي على الأرض غير مقنع وهو مجرد كلام وجزء من الخطاب الخشبي المؤذي لحاسة السمع. والاكثر سوءاً هو الانطلاق من النتائج المأساوية للاتفاق للدخول في ما بعد اوسلو - صفقة ترامب – وهي الحلقة الأكثر سوءا وخطراً. ما بعد اوسلو لا شك أخطر من أوسلو، ولا يعني ذلك تسليماً بأوسلو لطالما هناك ما هو أخطر منه. من الصعب الفصل بين أوسلو وما بعده، ما يهم هو نقد الاتفاق ورفض الاتفاق الذي يليه والبحث عن مخرج من المصيبة، بالانتقال الى ما بعد اوسلو والخروج من مساره الذي شهد خلق الوقائع الاستعمارية على الارض بدون معارضة ومقاومة جدية وحقيقية. وهنا ثمة فرق بين الدخول في طور ما بعد اوسلو – صفقة القرن – التي ستدمر القضية الوطنية وتفتت الشعب وتثبت وجوده في بنتوستونات الفصل العنصري وتشريده خارج وطنه، وتذيبه في الاقليم. وبين الخروج من مسار اوسلو وإعادة بناء مسار التحرر وتقرير المصير في شروط واقع جديد.
كان التزام قيادة منظمة التحرير بالهدف المركزي وهو تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة على أراضي 67 صحيحا وصائبا، والصواب يتأتى من الالتزام بالحقوق الفلسطينية المشروعة والمقرة. اي أن لا يكون الهدف المركزي على حساب اللاجئين ولا على حساب الفلسطينيين في مناطق الـ 48. حقيقة الامر، ان كل المكونات الفلسطينية داخل وخارج الوطن الفلسطيني بحاجة الى مركز سياسي يعيد البناء ويدافع عن الحقوق الفلسطينية حيثما وجد فلسطينيون. وهذا بالضرورة يعني ان كل المكونات شريكة في هذه العملية النضالية والتاريخية. الخلل الأكبر في السياسة والتفكير السياسي الفلسطيني تجلى في الاعتماد على السياسة الاميركية في تحقيق هذا الهدف، وبقي الرهان على الادارات الاميركية المتعاقبة رغم انكشاف انحيازها وتطابقها مع الاهداف والممارسات الاسرائيلية التي سعت منذ البداية وبشكل منهجي الى تقويض مقومات الدولة الفلسطينية على الارض. الرهان على الولايات المتحدة كعنصر مقرر وحاسم في تحقيق هدف وطني تحرري استراتيجي - إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة- كان مجازفة بكل الرصيد الوطني التراكمي. كانت المقاربة التي اعتمدتها القيادة الفلسطينية تتمثل بالدعم الأميركي لإبدال نظام الفصل العنصري الجنوب افريقي، بنظام سياسي للأكثرية التي مثلها حزب المؤتمر الأفريقي بزعامة نيلسون مانديلا، ولم تتوقف القيادة عند شبه الإجماع العالمي الرسمي والشعبي على مقاطعة ومعاقبة النظام العنصري، ولا عند اقتصار زوال الابارتهايد الجنوب افريقي على الجانب السياسي، وبقائه في المجالين الاقتصادي والأمني، فضلاً عن الاختلاف النوعي بين وظيفة اسرائيل كجزء لا يتجزأ من استراتيجية السيطرة على المنطقة، ووظيفة الابارتهايد الافريقي الهامشية في إطار علاقات التبعية.
وأصبح خطأ القيادة الفلسطينية مركباً ومستحكماً بمد رهانها الى اليسار الصهيوني - حزب العمل وامتداداته في الأحزاب الأُخرى - الذي اعتمد سياسة التوسع الاستيطاني وعمق السيطرة على شعب آخر، تلك السياسة التي لخصتها الصحافية الإسرائيلية عميرة هس في مقالتها المنشورة في تقرير وزارة الإعلام يوم 14 أيلول الجاري. تتحدث هس عن قدرة المؤسسة الأمنية والسياسية على الجمع بين موقفين في تبني السلام في سياستها الموجهة للخارج، والعمل عكس السلام ومواصلة الاحتلال والتنصل من المسؤولية الاقتصادية والقانونية عن شعب تحت الاحتلال. ولم تحدد المؤسسة السياسية هدف المفاوضات واحتفظت بحق فرض تفسيراتها للخطوات التدريجية ونهايتها، فيما استنتج الفلسطينيون والدول الاوروبية ومعسكر السلام الاسرائيلي ان الهدف النهائي هو إقامة دولة فلسطينية. وتضيف هس، كلمة احتلال لا تظهر في إعلان المبادئ، بل جرى إخفاء الاحتلال وأضيف من جانبي كلمة - وتعميقه -،في الوقت الذي ألقي فيه على الفلسطينيين عبء محاربة الارهاب.- واذا كان الاحتلال والاستيطان هما المنتجان الاساسيان للمقاومة التي تسميها اسرائيل ارهاباً. فان منعها ومحاربتها يصبح أمراً متنافراً وغير معقول ومستحيل. أما نقل الصلاحيات للسلطة فقد اتى عبر الادارة المدنية المسؤولة عن تنفيذ سياسة الاستيطان والسيطرة على السكان، والتي حرص ضباطها وموظفوها على العلاقة السيادية والمتعالية تجاه الفلسطينيين. لم تلتزم اسرائيل بالوحدة الجغرافية بين الضفة والقطاع، وكرست فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، واستمرت في التحكم بالسجل السكاني المتصل بمنح الإقامة، وسمحت فقط بصلاحية تغيير العنوان والسكن ما عدا الانتقال من غزة الى الضفة، وتعاملت مع قطاع غزة كمنطقة منفصلة منذ عام 97 . ومكانة الأسرى الفلسطينيين لم تتساوَ مع مكانة الجنود الإسرائيليين. وواصلت إسرائيل هدم المنازل واخلاء التجمعات البدوية لمصلحة التوسع الاستيطاني. وشرعت وزارة الداخلية آنذاك بإلغاء الإقامة لآلاف المقدسيين في صيغة ترحيل هادئ بذريعة ان مركز حياتهم خارج المدينة، وجرى عزل مدينة القدس وقطع علاقة الفلسطينيين مع مركزهم الاقتصادي والثقافي والديني والاجتماعي، وقَطعت أوصال الضفة عبر شبكة من الطرق الالتفافية لمصلحة المستوطنين، إضافة الى التوزيع غير العادل للمياه. وتخلص عميرة هس الى القول: لم يكن هناك سلام منذ البداية.
منذ العام 96 سمعت عميرة هس الصحافية اليسارية تتحدث عن أوهام السلام الفلسطينية، ومنذ العام 94 ، 95 كشف ادوارد سعيد حقيقة الموقف الأميركي الإسرائيلي في كتابيه بعنوان : أوسلو سلام بلا أرض. ومنذ عام 91 قالها بروفيسور فلسطيني اميركي في المجلس الوطني الذي قرر المشاركة في مؤتمر مدريد : انتم ذاهبون الى وكر الضباع وستفترسون هناك. ومنذ البدء قدمت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية الخرائط التنفيذية أوسلو والتي وصفها صحافي إسرائيلي بانها أسوأ من وضع ما قبل اوسلو بكثير. السؤال لماذا لم تتنبه القيادة للوقائع التي تقود الى الهاوية؟ ولماذا لم يكن هناك خط للتراجع، او خيار ثان، ولماذا انتقل الرهان من رابين الى بيرس الى اولمرت، ومن كلينتون الى بوش الى اوباما واخيرا الى ترامب؟ المشكلة في اعتماد خيار واحد وممر إجباري واحد. قد يجد السائل جواباً من المؤسسة التنظيمية السياسية التي تشهد ركوداً عصياً على التغيير.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"