بقلم/ مهند عبد الحميد
الإخفاق المتكرر لإنهاء الانقسام له أسباب عميقة غير الأسباب المعلنة التي يتبادلها قطبا الانقسام، والتي تتلخص في الصراع على السلطة ومركز القرار. ولا يقتصر الهروب من الأسباب الحقيقية للانقسام، ومن العمل على إيجاد مخرج حقيقي له على القطبين المتصارعين والمتنافسين "فتح وحماس"، بل يمتد الى قوى اليسار والنخبة المثقفة التي اعتمدت موقفا يتراوح بين الانحياز لاحدهما والتوفيق بينهما، ما يضفي مزيدا من التعقيد على حالة الانقسام.
فعندما يكون ميزان القوى متقاربا بين تنظيمين كبيرين، فإن قطباً ثالثاً ديمقراطياً يستطيع ترجيح كفة التنظيم الملتزم اكثر بالمصالح الوطنية وبالديمقراطية، ويجعله طرفاً مقرراً في السياسات والبرامج والتحالفات. حتى الآن لا يوجد مثل هذا القطب المستقل، وفي غيابه فان مهمة إنهاء الانقسام تصبح أكثر صعوبة وعسراً.
تستطيع حركة حماس التذرع بمواقف وممارسات عديدة للسلطة وللمنظمة وحركة فتح لتبرير انقسامها ولتثبيته، وبخاصة تكلس وشلل مؤسسات المنظمة. وتستطيع حركة فتح والمنظمة سَوْق مواقف وممارسات لحركة حماس أكثر وأخطر، تبرر استمرار الانقسام وبقاء الوضع على حاله، وتُحَمِل المسؤولية عنه لحركة حماس. ولا شك في أن هذه المتوالية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من عوامل مفاقمة الانقسام. فالسلب لا ينتج إلا سلباً مثله، واذا ما اعتمد سلب الآخر الأكثر في تبرير سلب الذات الأقل، والعكس. واذا كان كل طرف يسعى في دعايته وخطابه الإعلامي الى معاظمة سلب الآخر وشيطنته ونزع الثقة منه، فإن السلب سيقود الى أشكال من الاستعصاء غير قابلة للحل. في مواجهة السلب، لِمَ لا نبحث عن مداخل إيجابية، وعن معايير وطنية وديمقراطية، وإخضاع الخلاف والاختلاف لتلك المعايير.
اذا انطلقنا من الإيجاب ومعاييره، يمكن تحديد مسؤولية كل طرف، ومطالبته بالاستجابة والقبول، وفي حالة الرفض والاستنكاف والمناورة، يمكن ممارسة الضغوط عليه، وفي حالة الإصرار على الرفض وعدم الاستجابة، يمكن عزل الطرف المستنكف بأسلوب ديمقراطي.
إذا بدأنا بمسؤولية المنظمة، يجوز القول أن المنظمة كعنوان للشرعية الفلسطينية، معنية بالتعاطي مع التحولات السياسية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع والتجمعات الفلسطينية في مختلف أماكن تواجده. ولما كان التحول الأبرز هو صعود الإسلام السياسي واتساع نفوذه داخل المجتمع والتجمعات داخل وخارج فلسطين، كامتداد لصعوده في عموم الدول العربية، بدعم البترو والغاز دولار. إزاء ذلك، صار التحدي الأكبر أمام المنظمة هو استيعاب الظاهرة في إطار التمثيل والشراكة. فمن غير المنطقي تجاهل الامتداد الجماهيري للإسلام السياسي، ولا مأسسة التحول المجتمعي، ولا الامتداد الإقليمي والعابر للدول بما في ذلك الجاليات في الأميركتين وأوروبا للإسلام السياسي. مسؤولية الإدماج والإشراك للإسلام السياسي الفلسطيني لم تكن سهلة في الشروط الموضوعية غير المواتية، حيث كان هذا الاتجاه يسعى إلى استبدال سيطرة الوطنية العقلانية العلمانية بسيطرة الإسلام السياسي في كل البلدان بما في ذلك فلسطين، وذلك، انسجاماً مع أيديولوجيته الوهابية. كان المطلوب وضع معايير لمشاركة الاسلام السياسي في المنظمة، وفي الوقت نفسه السعي لتطوير وتجديد الوطنية العقلانية العلمانية فكريا وتنظيميا، ومد الجسور وفتح الأبواب أمام مشاركة الأجيال الجديدة في النضال الوطني والديمقراطي والمساهمة في تلبية احتياجاتها المعيشية والتعليمية والروحية. ففي غياب تجديد البنية وتقويتها بدماء وهمم جديدة، يصبح من الصعب إشراك اتجاهات مسلحة بايديولوجيا حصرية ومتغلغلة شعبيا ومدعومة من مراكز المال.
ارتكبت المنظمة أخطاء كبيرة، الأول: لم تفتح الأبواب ولم تمد الجسور على الأجيال الجديدة باعتبارها المجال الحيوي للتغيير الإيجابي المطلوب. والخطأ الثاني : تساوقت مع الإسلام السياسي وحاولت التنافس معه على أيديولوجيته فكريا وثقافيا واعتمدت أسلوبه في التأسلم، بما في ذلك إغراق مناهج التعليم بمفهومه الديني المحافظ، وانفتحت على القوى المحافظة والمتخلفة داخل المجتمع وتعايشت مع أفكارها وتقاليدها. ولم يشذ اليسار عن هذه السياسة. وكانت النتيجة خسائر متلاحقة قادت إلى رجحان كفة الإسلام السياسي في الانتخابات التشريعية والمجالس المحلية والجامعات وتراجع اليسار عن عقيدته الاجتماعية بشكل كامل.
غير ان تجربة الإسلام السياسي في الثورات العربية كانت مخيبة لآمال من اعتقدوا انهم يملكون الحل والبديل، فقد انحاز تنظيم الإخوان المسلمين للون واحد من المجتمع هو الإسلام السياسي، واتبع سياسة أخونة الدولة في مصر، وقام بسرقة الثورة وعسكرتها في سورية، في الوقت الذي اعتمد فيه الإسلام السياسي علاقات التبعية السياسية والاقتصادية، واستخدم المنظمات الإرهابية الخارجة من عباءة الإخوان المسلمين في الابتزاز والتخويف وفرض سيطرته. ولم تكن تجربة الحكم في غزة لتختلف كثيرا، لا سيما وان حركة حماس عملت طوال الوقت تحت قيادة الإخوان وباعتمادهم كمرجعية كانت تجربة فاشلة بامتياز، فشلت في تقديم بديل وطني لأوسلو، واعتمدت أسلوب المقامرة التي ألحقت الأذى بالكل الفلسطيني، وقدمت نموذجاً مخيفاً في اللاديمقراطية. وكان ولا يزال همها الاستمرار في الحكم وبأي ثمن.
واذا كانت مشاركة الإسلام السياسي في الإطار الرسمي إبان صعوده صعبة ومتعذرة، وبقي يعمل منفصلاً في خط مواز للمنظمة، حتى في مرحلة الانتفاضة الوطنية الكبرى. والأسباب كثيرة أهمها الأيديولوجيا المتشددة، وموقف المركز الدولي للإخوان المناهض للشراكة. وبسبب افتقاد قيادة المنظمة لمشروع توحيدي وتجديدي يستوعب الأجسام والفئات الحيوية في المجتمع والتي بقيت متروكة بدون اهتمام او استقطاب الى ان أصبحت مجالا لعمل تنظيمات الإسلام السياسي والسلفي. لكن الفشل في السابق لا يعني التسليم بالأمر الواقع. ان الفشل والعزلة التي يعيشها الإسلام السياسي راهنا تسمح وتتطلب إعادة المحاولة. وبذل الجهود وتقديم المبادرات والخطط الكفيلة بتصويب المسار. ولا شك ان التقدم يبدأ بالتصالح وكسب ثقة الفئات الاجتماعية وبخاصة الفئات الشابة، ففي الوقت الذي يبدأ الاستقطاب للمشروع الوطني من داخل هذه الفئات، في الوقت الذي لا تستطيع فيه حركة حماس الاستمرار في العمل الانفصالي الموازي. وستضطر الى البحث عن العمل المشترك والوحدة الوطنية. ويكتسب وضع معايير وطنية وديمقراطية للشراكة والوحدة أهمية كبيرة. يأتي في مقدمة تلك المعايير. فك الارتباط مع مدرسة التكفير والتحريم الدينية المتزمتة. والمرجعية المشتركة لكل القوى والمكونات مرجعية فلسطينية (المجلس الوطني). والالتزام بالأهداف الوطنية المشتركة كبرنامج مشترك، والتزام مبادئ الديمقراطية والتبادل السلمي لمركز القرار وللسلطة. إلغاء جهاز السيطرة التابع لحركة حماس وإلغاء نظام الكوتا الذي لا يزال معتمداً لدى حركة فتح.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"