بقلم: حسين حجازي
وُصفت انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة يوم الثلاثاء الماضي لانتخاب أعضاء مجلس النواب والشيوخ بالتاريخية او غير المسبوقة في تاريخ هذه الانتخابات، لجهة حدة الاستقطاب والأجواء او المناخ غير التقليدي الذي رافق إجراءها. وبالمحصلة فانه ينظر إليها بهذه الدلالات التي ميزتها ليس على أنها مجرد حدث تقليدي، وإنما لها ما بعدها كعلامة فارقة في تاريخ هذه الانتخابات التقليدية.
ووصفت بأنها مصيرية أي بهذا المعنى لن تحدد عند هذا المفترق مصير الولايات المتحدة المنقسمة على نفسها أكثر من أي وقت مضى، ولكن المصير السياسي والشخصي للرجل الذي ما برح يمثل مثارًا للجدل وهو محور هذه الانتخابات أي الرئيس الأميركي نفسه دونالد ترامب، الذي وضع كل ثقله فيها باعتبار ان نتائجها سوف تكون بمثابة الإشارة أو البروفة لما سيكون عليه مصير انتخابات الرئاسة التي يطمح اليها بعد عامين.
ولذا يمكن أن توصف تاليًا بأنها كانت انتخابات أشبه بحرب داخلية ثأرية وانتقامية وقفت فيها طبقة ضد طبقة، وكأن الصراع كان يجري على هوية أميركا نفسها، أي أميركا عند هذا المفترق الذي يشبه مرجل النار الذي يغلي: الأقليات العربية والمسلمة، والملونون من الأعراق الإثنية، لاتين وسود ومن المكسيك، ومعهم النساء والشباب الذين سئموا من هذه الشخصيات السياسية من أعضاء الطبقة السياسية المستهلكة، ضد قاعدة ترامب من اليمين الشعبوي والبيض، وباختصار ما يمكن أن يعتبر اليسار التقدمي الجديد ضد اليمين الشعبوي والعنصري.
هل كانت اذًا هذه العلامة او الاشارة التاريخية إلى المستقبل أن أمريكا دخلت طور التغيير الداخلي؟ وإن هذا التغيير هو السيرورة التي تشي بانفجار التعارضات؟. وما يحدث او سوف يحدث الآن ان دونالد ترامب لن يكون كما نُظر إلى أسلافه السابقين في كل مرة عقدت هذه الانتخابات عند النصف «بطة عرجاء». إذا كان انتصار الحزب الديمقراطي في مجلس النواب سوف يقيد ترامب ويعيد ضبط سياساته بل وربما شل حكومته وإدارته، ولكن مع انقسام السيطرة على مجلس النواب مقابل تعزيز سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ، فقد تكون هي الحرب إذا كان الرجل لم يسلّم بخسارته.
ولم يتأخر أو يتردد بعد يوم واحد من الإعلان عن نتائج الانتخابات في الإشارة إلى هذه الحرب التي أسماها بحرب التحقيقات في أول مؤتمر صحافي يعقده، ورغم أنه لم يتخل في هذا الظهور الإعلامي المباشر له عن عجرفته المعتادة، إلا أنه لم يستطع مع ذلك اخفاء غضبه وشعوره أنه تلقى ضربة من تحت الحزام، وضعت نقطة حمراء أمام طموحاته بل وربما التهديد بعزله عن إتمام مدة رئاسته خلال السنتين القادمتين.
وإذ نفى أو قلل من حقيقة ما حدث حول الموجة الزرقاء التي يمثلها انتصار الحزب الديمقراطي الكاسح في مجلس النواب، إلا أن العنوان الكبير كان يكتب على الحائط. وهكذا انتهى المؤتمر الصحافي بمشاجرة مع مراسل الـ CNN ولم يمض مساء يوم الأربعاء حتى أقال وزير العدل في خطوة استباقية للمعركة، وذلك على خلفية عدم اطمئنانه لوزير عدله الذي كان قد نأى بنفسه عن التدخل أو التعرض للمحقق روبرت مولر، ووضع مكانه أحد المقربين منه ويراهن عليه في لعب هذا الدور ضد المحقق، الذي ما برح يمثل بالنسبة له في السنة الماضية بمثابة الكابوس. وهدد الحزب الديمقراطي في هذا الصدد بأن معه الحزب الجمهوري الذي ظل يحتفظ بمجلس الشيوخ.
ويتضح الآن أن الرجل لم يدرك على ما يبدو أبعاد الزلزال الأميركي الذي حدث يوم الثلاثاء الماضي، وانه هو الذي لعب الدور الرئيسي في إحداث هذا الانقلاب بعد أن دفع جميع الأقليات أي من الأميركيين الجدد وغير الأصليين من غير البيض بحسب نظرته العنصرية، لحشد انفسهم والدخول بكثافة الى هذه الانتخابات والإلقاء بوزنهم او ورقتهم الديموغرافية على الطاولة. والقول له: نحن هنا العرب والمسلمين واللاتين والسود والمكسيك، وباختصار كل أميركا والى جانبهم هذه الثورة النسائية رداً على احتقاره للمرأة والنساء عموما، ولكن قبل الجميع الشباب. وكأن اميركا تستيقظ على ربيعها وتكفر عن الخطأ الذي ارتكب في غفلة منهم العام 2016 بفوز دونالد ترامب بسدة الحكم.
وها نحن الفلسطينيين الذين طالما عادانا دونالد ترامب وظلمتنا اميركا في الماضي، يطالنا شيء أو قدر ونصيب من هذا الحفل أو العرس الديمقراطي، وربما هذا القدر ينظر اليه على انه رمزي او معنوي، ولكننا نعتقد أنه سياسي وعلى قدر من الأهمية، وذلك بفوز الأميركية من اصل فلسطيني والمسلمة كذلك السيدة رشيدة طليب بعضوية مجلس النواب، هذا الفوز الذي كان هديتنا وبمثابة انتصارنا العاطفي.
وحقًا سوف يكون بعد الآن للغائبين أن يحضروا بأنفسهم ليتحدثوا عنهم، ويكون لهم الجرأة والقدرة على الكلام والمساءلة ولو بالصوت دفاعًا عن المظلومية الكبيرة في هذا العالم أي عن الفلسطينيين. وقد يكون هذا بداية تحول تاريخي اذا كان ما حدث هو انه قد حان الوقت لتنظيف الإسطبلات التاريخية في عقر الامبراطورية الأعظم في التاريخ، والتي اعتبرت روما الجديدة أو الثانية.
والواقع أن لسان حالنا يقول الآن أنْ أهلًا وسهلًا بعودة هذا اليسار الديمقراطي، هذه المرة باللون الأزرق ممثلًا بهذا الجيل الجديد من النساء والشباب، الذين سيكونون الآن رأس الحربة في القوة او الثورة المضادة للثورة الفاسدة لعتاة الرأسمالية البرجوازية المتوحشة، وتصحيح ما تنطوي عليه من انحراف سياسي وأخلاقي، وإعادة الاعتبار لمبادئ الدستور الأميركي كما صاغه الآباء المؤسسون.
بل وحتى إن لسان حال العالم يرحب الآن بعودة الوعي إلى استحضار او إعادة صورة أميركا الأولى، التي تحدث عنها المؤرخ توكفيل قبل ثلاثمائة عام باعتبارها تجسد الحلم أمام العالم. كما أن العالم كان ينتظر هذه العودة الى الليبرالية الأخلاقية الأولى التي طالما اقترنت بتصور هذا الحلم، بعد أن رأينا هذا الانحراف القاتل عن أسس هذه الليبرالية مع جروج بوش الأب، الذي أتى لنا بما سمي «المحافظين الجدد» او «الليبرالية الجديدة». ثم أتى دونالد ترامب ليدفع بهذا الانحراف الى ما شهدناه من النظرة العرقية العنصرية القائمة على الاستعلاء او العجرفة، وتفوق العنصر الأبيض بصورة فجة على الأعراق الأخرى.
ولم يكن صدفة هنا ان اختار هذا الأحمق والغبي قضية الخوف والتخويف من المهاجرين والهجرة الى أميركا، في حملته الدعائية لتحشيد وتعبئة قاعدته الانتخابية من البيض، وهي الاستراتيجية التي انتهت الى الفشل الذريع وذلك للحفاظ على الامتيازات العنصرية لأنصاره الناخبين، اذا كانت اميركا في ماضيها وحاضرها وحقيقتها ليست سوى امة من المهاجرين.
ولكن السؤال الآن وبالعودة إلينا هو عن الانعكاسات السياسية او التأثير المحتمل لهذا المتغير في الولايات المتحدة، مع انتصار وسيطرة الحزب الديمقراطي على مجلس النواب علينا نحن الفلسطينيين وعلى إسرائيل، علماً ان مجلس النواب هو الذي يختص بمراقبة وضبط السياسة الخارجية للإدارة وكذا مشاريع القرارات الداخلية والخارجية والموافقة عليها على حد سواء. اذا كان من اختصاص مجلس الشيوخ الموافقة على تعيين الأشخاص في المناصب الحكومية، ما يعني ان الرئيس الاميركي بعد الآن لن يكون حر التصرف في اتخاذ المواقف السياسية، وسوف يكون اكثر تقيّداً بهذا التوازن الجديد.
وفي هذا السياق، اذ يتضح بالنسبة لنا أننا الأكثر استفادة من هذه الرياح الجديدة للتغيير، بالرغم من الحذر الواجب بعدم الذهاب بعيداً في تقييم ما يحدث، اذا كنا نتحدث الآن عن سيرورة قد بدأت للتو، او عن إعادة قدر من التوازن للتهور والحرية المطلقة التي ميزت سياسة ترامب في العامين الماضيين، ما أضر بمصالحنا السياسية، ونتج عن ذلك اتخاذنا القرار بمقاطعة هذه الإدارة لأول مرة.
فقد يكون من البديهي أننا نحن الذين سنكون في الوضع الأفضل من الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، التي هي المتضرر الوحيد بعد ان وضعت كل رهانها او بيضها كله في تحالفها المستفز للديمقراطيين مع إدارة ترامب، والذي بدا خارجاً عن التقليد والنص، ما يعني انه سيكون عليهم بعد الآن محاولة إعادة ترميم وإصلاح علاقتهم مع الديمقراطيين، وهي محاولة من المشكوك فيه ان يغفر الديمقراطيون لإسرائيل هذا الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته.
وإذا تذكرنا ان الخلاف مع إسرائيل المتطرفة والشعبوية كان قد شهد انفجاره الصريح مع إدارة باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، فإن علينا ان نعرف بان إصلاح ما حدث لن يكون ممكنًا أمام حكومة نتنياهو بدون دفع ثمن سياسي كبير، اذا كان الاعتقاد سيبدأ الآن بان دونالد ترامب قد أوشكت نهايته في الحكم.
واذا كان باراك أوباما هو شخصيًا من شعر الأميركيون بالحنين اليه في هذه الانتخابات، هو من لعب الدور الرئيسي في شحذ هذه الروح وكان الملهم بحضوره وخطاباته لهذا الانتصار، وإذا كان علينا أيضا نحن الفلسطينيين والعالم الحر الذي يتوق للعدل ان نذرف الدمع تأثراً وانفعالاً للمشهد الذي لن يُرى مثيل له في التاريخ، عندما تصعد الفلسطينية رشيدة طليب مرتدية الثوب الفلسطيني بعد مئة عام من مظلومية الفلسطينيين لأداء قسم اليمين في الكونغرس الأميركي، باعتبار ان ذلك هو الإشارة الى الاتجاه ووجهة السفر القادمة.
عن صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"