غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

شخابيط عن أسرار الحمار والاستحمار

د. وليد القططي

بقلم د. وليد القططي

مرَّ اليومُ العالمي للحمير في الثامن من مايو أيار الماضي خلسةً دونَ أنْ يشعرَ بهِ أحدٌ، أو يهتمَ بهِ أحد، باستثناءِ بعض منظمات حقوق الحيوان، وجمعيات الحمير المحلية والدولية، المهتمة بتوضيح أهمية الحمير الاقتصادية، والدفاع عن الحمير، ورفع الظلم الحسي والمعنوي الواقع عليها، ومن ذلك الظلم الحسي ضربها، والتحميل الزائد عليها، وتشغيلها ساعات تتجاوز قانون العمل الآدمي والحيواني، وربما الظلم المعنوي للحمير أشد وأقسى من الظلم الحسي، ومنه توظيف اسمها في سب الناس وانتقادهم بعضهم بعضاً، لا سيما إلصاق صفة الغباء بالحمار وإنزالها على كل متهم بالغباء منهم بقولهم (أنت حمار). وهي معتقدات خاطئة؛ فالحمار حيوانٌ هادئ وذكي، ويتعلم بسهولة، ويتدرب بسلاسة- بخلاف كثير من البشر- إلا أنه مخلوق عنيد جداً، وهذا نابعٌ من تقديره العالي لذاته واعتزازه الكبير بنفسه، ورغم ذلك فقد استُخدم الحمار وسيلة للتندر في نكت عديدة أشهرها سلسلة (جحا وحماره).

وإذا كان هناك من ظَلَم الحمير، فهناك من أنصفها، لا سيما من الأدباء ذوي المشاعر المُرهفة والعواطف الرقيقة، كالأديب الكبير توفيق الحكيم في روايته (حمار الحكيم) التي روى فيها تجربته مع حماره في الريف المصري مستعرضاً بؤس الريف المصري وإهمال الحكومات المتعاقبة له، وكتابه (حماري قال لي) وهو عبارة عن مجموعة مقالات فلسفية ساخرة بطريقة حوار بين الحمار والحكيم، وصف فيها الحمار بأنه "مخلوق يجيد نوعاً من السخرية، ليس من الهيّن أن يُلمح في كل الأحيان، لأنه مُغلّف في طيات التواضع والتسليم والإذعان، ولكني أعرف فيه قوة المقاومة، وصلابة المراس، وشيئاً من الاعتداد بالذات، ولا يظهر إلاّ إذا وُخز وخزة تجرح نفسه...". ويكفي أن نذكر أن أول رواية كاملة في التاريخ الإنساني كتبها باللغة اللاتينية (لوكيوس أبوليوس) بعنوان (الحمار الذهبي) في القرن الثاني الميلادي كانت عن قصة رجل يتحوّل إلى حمار بفعل السحر، فيصوّر ما يُعانيه على أيدي البشر الذين تعاقبوا على امتلاكه من قسوة وظلم وإهانة.

ربما كان من أنواع الظلم الآدمي للحمير اشتقاق مصطلحات مفهومها سلبي من الحمار وإسقاطها على الإنسان، ومن هذه المصطلحات مفهوم (الاستحمار)، على وزن (استفعال)، القريبة من مفاهيم الاستغفال والاستهبال والاستعباط، والاستحمار يُطلق على كل عملية استغباء فردية أو جماعية من فرد أو جماعة تُمارس على فرد أو جماعات أُخرى، بمعنى معاملة الإنسان كأنه حمار من حيث تسخيره واستغلاله بدون إرادته، وصاحب المصطلح هو فيلسوف الثورة الإيرانية المفكر (علي شريعتي) ذكره في كتابه (النباهة والاستحمار)، وعن معنى الاستحمار يقول "الاستحمار تزييف ذهن الإنسان، ونباهته وشعوره، وتغيير مسيره عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية... من أجل الوقوع في العبودية، والذهاب ضحية لقوة العدو، والاستحمار المُطلق" ويضيف شريعتي عن مفهوم الاستحمار بأنه تسخير الإنسان لخدمة أغراض الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي كما يُسخر ويُستغل الحمار. ولا يمكن الخروج من حالة الاستحمار إلاّ بحالة النباهة ممثلة في الوعي النفسي والأصالة والابداع، وهي حالة من فعالية الإنسان في المجتمع ليكون مستعصياً على الاستعمار والاستبداد.

بعد الاعتذار للحمير ونحن لا زلنا نعيش أجواء يوم الحمير العالمي، لا بد من استخدام مفهوم الاستحمار لوصف الحالة النفسية والعقلية للنخب العربية الحاكمة، وأنظمتها السياسية، وفئاتها الطفيلية، في علاقتها مع قوى الاستعمار القديم المتجدد، بدءاً من أسبانيا والبرتغال، وانتهاء ببلاد العم سام الأمريكان، مروراً ببريطانيا (العُظمى) ذات التيجان، ومع كل من فرض في الماضي، ويفرض في الحاضر حمايته على بلدانها، ويرتع في نعيم ثرواتها، تطبيقاً للمثل الشعبي شديد الانبطاحية (اللي يتجوز أمي أقوله يا عمي)، وانسجاماً مع فقه الخضوع ونظريات الخنوع، واتساقاً مع الروح الانهزامية والنفس الدنية. الاستحمار يصلح لوصف حال النخب العسكرية والقبلية الحاكمة في بعض الدول العربية، وأنظمتها السياسية، وما التصق بها من فئات طفيلية، من رجال الأعمال الفاسدين، وانصاف المثقفين الانتهازيين، وأشباه علماء الدين المنتفعين، ومن سار على دربهم من عيون يترصّد بها الحكام المستبدون شعوبهم، وأيدي تنهال على شعوبهم بالضرب، وسجانين حراّس على زنازين القهر من أحرار الشعب، ليتحولوا في عملية استحمار مُركبة شركاء اللص الذي يسرقهم، والقاتل الذي يقتلهم، كما جاء في مقالة (العبودية الطوعية) للفيلسوف الفرنسي (ايتان لابوسي).

الأنظمة العربية الحاكمة العسكرية أو القَبلَية، المفروضة على بعض البلدان العربية لاسيما الغنية المترفة، تعيش في علاقتها مع الاستعمار الأمريكي الجديد، حالة من الاستحمار تعدت حالة الاستعمار، وتجاوزت القابلية للاستعمار الذي ذكرها مالك بن نبي إلى القابلية للاستحمار التي ذكرها علي شريعتي، لتصل إلى حالة أقرب من العبودية الطوعية، التي يتنازل فيها الانسان الحُر عن حريته وكرامته لسيدٍ أقوى منه يوهمّهُ بأنه يستطيع حمايته من عدوٍ داخلي هو شعبه المقهور، وعدوٍ خارجي هو البعبعُ الموهوم، ليظل النظام بنخبته الحاكمة والفئات الطفيلية اللصيقة بها في حالة رعب وذُعر متواصل، تبقيهم بحاجة لحمايته فيتنازلون طواعية للسيد المستعمر عن حرية إرادة بلدانهم ومعظم ثرواتها له، أليس هذا بالضبط الذي يحدث بين تلك الأنظمة والأمريكان ومعهم الكيان الصهيوني العاجز عن حماية نفسه فضلاً عن حماية غيره؟!.

 

"جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز".