غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

إسرائيل كمدخل لتفسير العالم؟

مواجهات بالضفة.jpg

بقلم: إيلي عبدو

تسلل إلى الثقافة العربية عبر عقود من مقارعة إسرائيل قدر كبير من التسليم واللاعقلانية والزيف، فمركزية القضية الفلسطينية استتبعت مركزية معرفية صلبة، تستدرج إليها كل المجالات، وتنتج المعايير، وتصدّر الخلاصات، على حساب التمييز والنقد وفرز السياقات وتحليلها. السياسة اختلطت بالثقافة، والحق بكيفية الحصول عليه، مهما راكمت من خسائر، وقادة النضال بالنضال، والقضية بالأفكار الكبرى التي سبقتها من قومية وماركسية واشتراكية، والعدو بالغرب، والعالم بالتآمر.

انعدام التمييز، كان عماداً للنظر نحو العدو كعدو كلي شامل، لم تقصر الأيديولوجية الدينية الإسلامية في إضفاء طابع سحري عليه، فجعلته كلي القدرة في إنتاج الشر وتغذية بؤره. والسحر، سبق أن أسست له سردية المقاومة التي آثرت، بداية، عدم دراسة العدو، بحجة أن الأخير زائل وفهمه سيساهم في تثبيت وجوده، ما ترك للخرافة مساحة كافية لمراكمة صورة غامضة عن إسرائيل، يختلط فيها الشر بالقوة. صورة ساهمت التصورات الثقافية السائدة عن اليهود في رسمها، فبات كتاب مثل «بروتوكولات حكام صهيون» مدخلاً رئيسياً لتفسير العدو، قبل أن تستدرك المقاومة بعد هزائم متتالية، أن الأخير وجب فهمه «علمياً» فحضرت هنا الأيديولوجية الشاملة التي تستخدم إسرائيل لتفسير كل شيء، واستُتبعت ببعد ديني، يسقط الفرز بين الخير والشر على كل شيء أيضاً، هكذا، بدأ فهم العدو بالسحر الثقافي واستكمل بالأيديولوجي والديني. والنتيجة، العدو المحدد بوصفه مغتصبا لأرض ومشردا لشعب، فاض ليغطي على كل القيم والمعايير، ويجعل نقيضه لمجرد كونه نقيضه، موضوع حق لا يقبل النقاش. وباتت إسرائيل المنظور نحوها بميوعة لا حدود لها، معياراً لتوصيف أحوال البلاد العربية وقياس شرعية أنظمتها، فإن حاربها نظام ما فهو شرعي، من دون أن يكون لشعبه أي رأي أو حضور، وإن هددها آخر فهو أيضاً شرعي حتى لو كان يعقد صفقات المهادنة على حساب أهل القضية أنفسهم. كذلك دول العالم، جرى تقييمها انطلاقاً من ذلك، بغض النظر عن طبيعة الحكم فيها، وعلاقة السلطة بالشعب. وقد زاد تقسيم العالم إلى معسكرين في حقبة محددة من تكريس هذه الثنائية وتغذيتها، والاقتناع بوهم أن هناك معسكرا أفضل من آخر انطلاقا من القاعدة نفسها، إسرائيل معيارنا.

محو عناصر القياس لصالح عنصر واحد على أهميته الأخلاقية، ترك هامشا لأنظمة اغتصبت السلطة بقوة السلاح لتأسس شرعية زائفة

والمعيار الواحد إذ يطغى ويهيمن، يبتلع دواخل الدول، ويلغي سياساتها، ماحياً التدرجات المعقدة بين الإيجابي والسلبي، فإن تقدمت دولة ما في تجربتها الديمقراطية والتنموية والعلمية، وكانت على علاقة مع إسرائيل فهذا سلبي، وإن تأخرت أخرى واضطهدت شعبها وقمعته، وكانت معادية لإسرائيل فهذا إيجابي. محو عناصر القياس لصالح عنصر واحد على أهميته الأخلاقية، ترك هامشا لأنظمة اغتصبت السلطة بقوة السلاح لتأسس شرعية زائفة، واستبدادا طويل الأمد. وأيضاً، جعل التحالفات والخصومات مع دول العالم، تبتعد عن الحسابات السياسية الدقيقة، التي يمكن أن تعود بالنفع على القضية الفلسطينية، التي خسرت، بفعل المعادلة السابقة، دعم بعض دول العالم وربحت دعم نظم استبدادية. التنبه المبكر لخطورة إعلاء إسرائيل وجعلها معيار للنظر إلى العالم، كان يمكن أن يخلق حلفاء أكثر للقضية الفلسطينية، عملاً بمنطق السياسات النسبية، حيث الاستفادة من دولة ما يمكن أن يحصل، رغم علاقة تلك الدولة بإسرائيل، كما إن هذا التنبه كان يمكن أن يؤسس لنظرة نقدية حيال الأنظمة العربية، لا تغض الطرف عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا عن الشعوب التي بقدر ما تكره إسرائيل تحب حريتها. ولأن هذا التنبه لم يحصل، بإرادة ذاتية، وفرض كأمر واقع بفعل موازين القوى وتحولات القضية الفلسطينية، بتنا أمام اتجاهين، أحدهما يتمسك بالماضي، أي بمعيارية إسرائيل لفهم العالم، ضمن ذهنية غير معنية بتحقيق المكاسب، بل برفع الشعارات والاستفادة منها، وآخر، يسقط الحاضر، متجاهلاً حقوق الفلسطينيين، ضمن ذهنية مضادة، لا تراعي أي حساسيات أخلاقية لقضية عدالتها محسومة.

وعليه، فإن عملية تحويل إسرائيل إلى معيار ورسم خريطة الانحيازات عبره، لم تنته، بل أخذت مسارا آخر، وتوسعت دائرة المستفيدين منها، من أنظمة تقمع شعوبها، مروراً بمليشيات تفرض إرادتها بالقوة، وصولاً إلى دول غنية تستثمر بوجدان المجتمعات العربية حول فلسطين لتخلق رأيا عاما مواليا لها لتمرير أجندتها. وهي، أيضاً، أي المعيارية، انتجت نقيضها السيئ، فزيف تحميل العدو مسؤولية كل شيء، ولّد زيفاً مضادا يسقط عن العدو أي شيء ويحيله حليفاً وصديقاً. هكذا، انجبت اللاعقلانية لاعقلانية مقابلة، واحدة تخسر القضية من دون أن تدري وثانية تخسرها مع دراية كاملة.

ثم إن إسرائيل إذ نحوّلها إلى سبب أو تفسير لكل ما يجري في العالم، فإن ذلك يكرسها لاعبا دائما وقادرا على تحريك الخيوط وقلب المعادلات، وهذا غير صحيح، لأن ما تملكه من قدرات ولوبيات ومراكز نفوذ ورأسمال رمزي، يمكن لأي دولة أن تمتلكه، وهناك وقائع سياسية كثيرة تشير إلى أن إسرائيل لا تحصل دائما على ما تريد. بمعنى أن المعيارية المؤسسة حيال العدو، تقدم له خدمة مجانية، بجعله قوياً من دون أن يكون هو كذلك، وتجعلنا نقبل بأنظمة مستبدة، ونغفل حقوق الشعوب، وأيضا، تجعلنا نقبل بعلاقات غير عقلانية مع دول العالم، تختصر أوضاعها ومواقفها بشرط واحد للقياس والحكم. وذلك على الرغم من أن التجارب تدلل على أن موقفا للاتحاد الأوروبي رافضاً للمستوطنات، أفضل بكثير من صواريخ صدام حسين التي أطلقها ذات يوم على إسرائيل. على الرغم من أن دول الأول على علاقة مع الاحتلال، في حين كان العراق البعثي على عداء علني معه، لكن فرقا يتبدى واضحاً بين دول ديمقراطية تقيس مواقفها بدقة، حيال القضايا، ويمكن أن نستفيد منها بمكسب من هنا وإنجاز من هناك، وأنظمة استبدادية توسعية تطلق النار على العدو كلما أحرجت في تنفيذ غاياتها، من دون أن يستفيد الفلسطينيون شيئا.

الانتقال من المعيارية الصلبة التي تعلل العالم بإسرائيل، إلى النسبية وحسابات الربح والخسارة، ستفيد ليس فقط في إضعاف العدو، وإنما ستقطع الطريق على المهرولين نحوه، بتأسيس عقلانية غير تلك التي يسوقون لها. عقلانية تعود بالنفع على القضية الفلسطينية عبر انتزاع مكاسب وتوسيع مروحة الخيارات. كما أن هذا الانتقال، سيجرد الأنظمة المستبدة، خصوصاً التي تنكل بشعبها بالقذائف والصواريخ من أي غطاء سياسي، وسيعيد تعريفها بوصفها أنظمة قاتلة مغتصبة للسلطة، عاجزة عن تبرير جرائمها بالعداء مع إسرائيل.

عن صحيفة القدس العربي

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"

"جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز".