بقلم/ د. وليد القططي
منذُ قرنٍ من الزمان يعيش الشعب الفلسطيني صراعاً مريراً مع المشروع الصهيوني والكيان الصهيوني، وكلُ شهرٍ مليء بالذكريات الزاخرة بالبطولة أو الأسى، والمفعمة برائحة التضحية والفداء، ومن ذكريات شهر سبتمبر الماضي انتفاضة الأقصى التي اندلعت شرارتها في الثامن والعشرين من سبتمبر عام ألفين مطلع القرن الحادي والعشرين، عندما اقتحم الارهابي أرئيل شارون المسجد الأقصى مستفزاً مشاعر الفلسطينيين ومثيراً لحماستهم الوطنية، فتصدى له من كان منهم في المسجد الأقصى بكل ما تقع عليه أيديهم من حجارة وأحذية، فتدخلت قوى أمن الاحتلال لحمايته، فأطلقوا رصاصهم الحاقد على المدافعين عن الأقصى وجرحوا العشرات منهم، وامتدت المظاهرات إلى كل أرجاء فلسطين المحتلة في الضفة والقطاع والأرض المُحتلة عام 1948، وامتدت أعمال المقاومة بكافة أشكالها لسنوات فيما عُرف باسم (انتفاضة الاقصى).
اقتحام الارهابي شارون للمسجد الأقصى كان (القشة التي قصمت ظهر البعير) التي أطلقت شرارة الانتفاضة، ولكن السبب الحقيقي هو استمرار الاحتلال بكل صوره البشعة وأشكاله القبيحة من استيطان الأرض، وتهويد القدس، واعتقال المواطنين، وقتل المناضلين.. رغم وجود السلطة الفلسطينية المنبثقة عن اتفاقية أوسلو، فلم يزل الاحتلال بل تكرّس، ولم يتوقف الاستيطان بل تمدّد، ولم ينتهِ تهويد القدس بل تعمّق... والسبب الأهم هو انتهاء المرحلة الانتقالية المُحددة بخمس سنوات عام 1999 دون الانتقال إلى الدولة الفلسطينية المستقلة الموعودة، واكتشف الشعب وهم حل الدولتين، وسراب التسوية، عندما وصل إلى نهاية المرحلة الانتقالية وجاء إلى منتهاها فلم يجدها شيئاً ووجد الاحتلال والقمع والسجن والقتل عندها، فأدرك الشعب بما أُوتيَ من حكمة أوهام السلطة وأضاليل السياسة.
انتفاضة الأقصى انتهت كموجة من موجات الثورة الفلسطينية الممتدة على مدى قرنٍ من الزمان سبقتها موجات ولحقتها أخرى، في سلسلة طويلة راكمت النضال الوطني الفلسطيني المتواصل، وقد انتهت هذه الموجة أو الحلقة بفعل ثلاثة أسباب أهمها عملية (الدرع الواقي) العسكرية في الضفة الغربية عام 2002 التي اقتحم فيها جيش الاحتلال المدن الفلسطينية وقضى فيها على النواة الصلبة للمقاومة. وبفعل اتفاقية الهدنة في شرم الشيخ بين السلطة وحكومة الكيان الصهيوني برعاية مصرية واردنية في فبراير عام 2005، التي نصت على "وقف كافة أعمال العنف ضد الفلسطينيين والإسرائيليين أينما كانوا". والسبب الثالث هو الانسحاب الاسرائيلي – الجيش والمستوطنين- من قطاع غزة في سبتمبر عام 2005 بتأثير عمليات المقاومة المتصاعدة ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين الصهاينة.
الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة المُسمى رسمياً " خطة فك الارتباط الأُحادية الإسرائيلية" أو اعادة الانتشار، لم ينهِ السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة، كما كل فلسطين، فلا زال الاحتلال يسيطر استراتيجياً وفعلياً على الجو والبحر بغزة، كما أن قطاع غزة لا زال مُحتلاً وفق القانون الدولي، وما الذي تغّير إذن بعد الانسحاب الإسرائيلي على قطاع غزة؟!. رغم كل الحقائق السابقة الانسحاب الإسرائيلي من غزة لم يتم في إطار اتفاقية أوسلو سواء المرحلة الانتقالية أو النهائية، ولم يتم في إطار بوادر حسن النية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ولم يتم في سياق خطة إسرائيلية لإحداث الانقسام الفلسطيني كما يزعم بعض المهزومين اليوم، وكيف ذلك وقد قال شارون في بداية الانتفاضة أن (نتساريم) أكبر مستوطنة في قطاع غزة "أن نتساريم بمكانة تل أبيب ولن نتنازل عنها أبداً", وما هي إلاّ بضع سنوات وتنازل عنها مع ستة عشر مستوطنة أخرى في القطاع.
تفكيك المشروع الاستيطاني في قطاع غزة وانسحاب جيش الاحتلال من القطاع كان له سببٌ واحد هو أن المشروع الاستيطاني أصبحت تكلفته المادية والبشرية كبيرة لم يحتملها الكيان الصهيوني، وأن هذه التكلفة سببها عمليات المقاومة الفلسطينية المتصاعدة، وأن اختلاق أي سبب آخر يصب في إطار لا يؤمن بنهج المقاومة كطريق للتحرير، ولو كان هناك حدود برية مفتوحة على قطاع غزة لكان بالإمكان أن يكون قطاع غزة نقطة انطلاق لتحرير كل فلسطين، وهذا هو المعنى الحقيقي لمفهوم مرحلية التحرير الوارد في البرنامج المرحلي المعروف بالنقاط العشر الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، فقد جاء في البند الثاني من البرنامج المرحلي " تناضل منظمة التحرير الفلسطينية بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها".
نص البند ومضمونه يختلف تماماً عما جاء في اتفاقية أوسلو، فقد تدحرجت المرحلية من مرحلية التحرير التي يتم فيها تحرير الأرض بالمقاومة ثم يتم إقامة " سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة" كما جاء في البرنامج المرحلي، إلى مرحلية التسوية التي يتم فيها " نقل السلطة من الحكومة العسكرية الإسرائيلية وإدارتها المدنية إلى الفلسطينيين المخوّلين بهذه المهمة" كما جاء في اتفاقية أوسلو. ومرحلية التحرير يفاوض الثوار عدوهم تحت النار وهم يقاومون، أما مرحلة التسوية فتتم المفاوضات بعد وقف إطلاق النار وإلقاء السلاح وتجريم المقاومة، ومرحلية التحرير اتبعتها الكثير من الثورات الوطنية الناجحة في العالم كالثورة الفيتنامية التي أقامت سلطة وطنية ثورية في شمال فيتنام انطلقت منها لتحرير كل فيتنام.
مرحلية التحرير قد تكون المخرج من المأزق الفلسطيني الحالي، فيمكن تحديد هدف تحرير الضفة الغربية كهدف وطني مرحلي أو كمشروع الحد الأدنى في إطار المشروع الوطني الفلسطيني الكبير (تحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش)، بعيداً عن مفهوم (مرحلية التسوية) الذي يعني ضياع ربع قرن آخر من تاريخ الشعب الفلسطيني جرياً وراء سراب خادع. وهذا يحتاج إلى استراتيجية وطنية موّحدة تعتمد على ركيزتين نضاليتين هما الصمود والمقاومة، بدعم صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه وفي وطنه، ولتكن هذه مهمة السلطة الفلسطينية، والمقاومة بكافة أشكالها وأنواعها من السلمية حتى المسلحة مروراً بالمقاومة الشعبية، وهدفها هو تحويل الاحتلال إلى احتلال مكلّف بالانسحاب من الضفة الغربية تحت وطأة الشعور بالمأزق الأمني والوجودي في الضفة الغربية (الانسحاب من الضفة لحماية وجود إسرائيل) وبذلك يتراجع المشروع الصهيوني في حدود ما قبل النكسة 1967 انتظاراً لمرحلة التحرير الأخيرة. وحتى ذلك الوقت لا مناص من إعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على أساس استحقاقات مرحلة التحرر الوطني.