بقلم/ د. وليد القططي
يُحكى أنَّ رجلاً ذهبَ إلى جُحا مهموماً يشكو إليهِ ضيقَ بيتهِ مع كثرةِ عيالهِ وقلةِ رزقهِ، طالباً منهُ النصيحةَ لتوسيعَ بيتهِ وتحسينَ حالهِ، فقال لهُ جُحا: اشتري حماراً واسكنهُ معكمْ فيْ البيتِ وتعالْ بعدَ ثلاثةِ أيامٍ، فغابَ الرجلُ بعد انقضاء الأجلَ المضروب، وعاد إلى جُحا، وقالَ لهُ: الحالُ يسوءُ يا جُحا، فما كانَ من جُحا إلاّ أنْ قالَ لهُ: اشتريْ خروفاً واجعلهُ يعيشُ معكمْ فيْ البيتِ، وعُدْ بعدَ ثلاثةِ أيامٍ، فخرجَ الرجلُ مُتعجباً، ولكنهُ فعلَ ما طلبَ منهُ جُحا ورجعَ بعدَ الميقاتِ المحدود، وقالَ لجُحا: الحالُ أسوأُ يا جُحا، فقالَ له جُحا: اشتريْ دجاجاً وضعهُ معكمْ فيْ البيتِ، وارجعْ بعدَ ثلاثةِ أيامٍ، فابتعدَ الرجلُ أشدُ عجباً وأكثر استغراباً، ولكنهُ أخذَ بنصيحةِ جُحا، ثمَّ اَبَ بعدَ العهدِ الموعودِ، وقال لجُحا: الحالُ يزدادُ سوءاً يا جُحا. فأمرهُ جُحا أنْ يُخرجَ الحمارَ منْ البيت ويبيعهُ ويرجع إليه ِ بعدَ ثلاثةِ أيامٍ، ففعلَ وعاد إليه وقال لجُحا أنَّ الحالَ تحسّنَ قليلاً، وهكذا طلبَ منهُ بيعْ الخروفِ ثمَّ الدجاجِ فأخبرَ الرجلُ جُحا بعدَ أنْ أخرجَ منْ بيتهِ الخروفَ والدجاجَ أنهُ قدْ أصبحَ في أفضلِ حالٍ بعدَ أنْ عادَ إلىْ وضعهِ الأول.
سياسة جُحا معْ الرجلِ هي نفس السياسة التي اتبعتها معنا إدارة سجن النقب الصحراوي الإسرائيلية، في عهد الانتفاضة الأولى فعندما كنا نقوم بالإضراب عن الطعام كخطوة نضالية للمطالبة ببعض الحقوق لتحسين ظروف حياتنا داخل السجن، أو بعبارةٍ أخرى تحملُ نفس المعنى وفق تعبير الكاتب المناضل حيدر عيد "تحسين شروط الاضطهاد"، فقد كانت إدارة السجن الإسرائيلية عندما نبدأ أي خطوة نضالية مطلبية تقوم بسحب بعض (الانجازات) السابقة التي انتُزعت من بين فكي السجان، مثل: إلغاء الزيارات المتبادلة بين أقسام السجن، وعدم إدخال بعض أنواع الأطعمة، وإلغاء زيارات الأهل، وسحب طاولات التنس... وغيرها. وذلك لإجبار الأسرى والمعتقلين على الدخول في مفاوضات طويلة ومملة لعودة ما تم سحبه من إنجازات ومكاسب، وتستخدم كافة فنون المماطلة وضروب المماحكة، إلى أن ننسى طوعاً أو كرهاً ما كنا نطالب بهِ تحت تأثير الملل والسأم والضجر في انتظار عودة (الانجازات) المسحوبة، حتى إذا عادت كلها ومعها قليل من المطالب الجديدة أحياناً، فنحس بالارتياح ونشعر بالانشراح، والحقيقة أن حالنا كحال صاحب جُحا بعد أن عاد إلى وضعهِ الأول.
سياسة إدارة سجن النقب هي نفس سياسة إدارة السجن الكبير في الكيان الصهيوني مع الشعب الفلسطيني، فقد كنّا قبل هزيمة حزيران 1967 المُسماه تخفيفاً وتلطيفاً (النكسة)، نُطالب بتحرير كل فلسطين، وعودة كل اللاجئين، وأنشأنا منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 لتحقيق هذا الهدف الوطني الكبير، وإنجاز المشروع الوطني الفلسطيني، قبل أن تضيع بقية فلسطين، وبعد حزيران تحوّلت فلسطين كلها إلى (إسرائيل الكبرى)، وسحبت إدارة السجن الكبير ما تبقى لدينا من أرض فلسطينية أو انجازات بمفهوم السجن، ولم يمرْ زمن طويل حتى تآكلت الثوابت الوطنية بالتقادم، ونُحتت المبادئ الثورية بالتعرية، وحُرّفت الواقعية السياسية بالتأويل، واستُبدلت مرحلية التحرير بمرحلية التسوية، وأقنعنا أنفسنا أن ما لا يُدرك كلَّهُ لا يُترك جُلَّهُ، وأخذنا بمبدأ الحبيب بورقيبة (خذ وطالب)، فسبقنا البورقيبية في أصول الانبطاحية، فأخذنا سلطة بدون سلطة، وطالبنا بدولة دون دولة، وانتهى بنا الأمر في محاولة تحسين ظروف حياتنا تحت الاحتلال أو بمفهوم حيدر عيد " تحسين شروط الاضطهاد".
وقد يكون هذا ما حدث لنا فيما يُعرف بتفاهمات التهدئة أو تفاهمات إنهاء الحصار، في إطار إدارة الصراع بين المقاومة بغزة، وإدارة السجن الكبير في الكيان الصهيوني، منذ نهاية الانتفاضة الثانية وحتى مسيرات العودة، مروراً بالحروب العدوانية الإسرائيلية المتكررة على غزة، فقد طالبنا بإنهاء الحصار المفروض على غزة في كل مرة، وحددنا هدف إنهاء الحصار عن غزة تركزت آخرها في المنحة القطرية المرتبطة بمسيرات العودة كمساعدات مالية لأسر غزة الفقيرة والمنكوبة بالاحتلال والحروب والحصار والانقسام والعقوبات، وكل مآسي الأرض، وبلايا الكون، ونكبات الزمن، وصروف الدهر، فتحوّل الهدف من إنهاء الحصار إلى تخفيف الحصار، وعمل العدو تدريجياً على حصر مطالبنا في هذا الإطار الضيق فلم ننس فقط إحياء حق العودة، بل نسينا حق الحياة بدون حصار، أو بالأحرى تم إجبارنا على ذلك بفعل سياسة إدارة السجن الكبير للصراع بعقلية إدارة السجن الصغير، لنكرر نفس الأخطاء فنقبل بهدف تخفيف الحصار، أو تحسين الحياة تحت الحصار، أو "تحسين شروط الاضطهاد"، أملاً في الوصول إلى إنهاء الحصار ثم إنهاء الاحتلال من كل فلسطين.
المشكلة ليست فيما نريده من تحرير للأرض وعودة اللاجئين والاستقلال الوطني، فلا شك أن كل فلسطيني حتى من أيّد اتفاقية أوسلو يريد ذلك، وحتى تحرير كل فلسطين وعودة كل اللاجئين والاستقلال الوطني التام، ولكن المشكلة في كيف نحقق ما نريده كشعب فلسطيني، والمشكلة في إدارة الصراع مع العدو للوصول إلى أهدافنا الوطنية، وكيفية الاستفادة من نقاط القوة الموجودة في أيدينا ومراكمتها في إطار ركيزتي الصمود والمقاومة فوق أرضنا وداخل وطننا، وأهم شيء التركيز على إنهاء الاحتلال والحصار وليس تحسين ظروف الحياة تحت الاحتلال والحصار، كما قال الدكتور محمد اشتيه مؤخراً "إن الفلسطينيين لا يبحثون عن تحسين ظروفهم المعيشية تحت الاحتلال، وإنما يريدون إنهائه والعيش بكرامة في ظل دولتهم".