بقلم/ د. وليد القططي
كتب الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم قصيدة بعنوان (جيفارا مات) رثى فيها المناضل الأُممي (ارنستو جيفارا) المُلّقب بـ (تشي) بمعنى الرفيق ومما جاء فيها : "جيفارا مات.. جيفارا مات.. مات المناضل المثال.. يا ميت خسارة على الرجال.. مات البطل فوق مدفعه جوّة الغابات.. جسّد نضاله بمصرعه ومن سكات.. يمكن لفظْ آخر نفس" كلمة وداع.. لجل الجياع.. صور كتير ملو الخيال.. وألف مليون احتمال.. لكن أكيد ولا جدال.. جيفارا مات موتة رجال". القصيدة أجملت القيم الثورية التي عاش عليها جيفارا ومات من أجلها، تماماً كما قال :" لن يكون لدينا ما نحيا من أجله، إن لم نكن على استعداد أن نموت من أجله". فدفع جيفارا حياته ثمناً لما يؤمن به، وما ثائراً مقاوماً في غابات بوليفيا بعد أن ترك السلطة وامتيازاتها في كوبا. وان كان جيفارا قد ترك السلطة من أجل الثورة، فهناك من ترك الثورة من أجل السلطة، وما التجربة الفلسطينية عنا ببعيد، بل هي أقرب لهذا المثال من حبل الوريد.
من المألوف أن تتحوّل ثورات الشعوب المُظفّرة، وحركات المقاومة المنتصرة، إلى سلطة حاكمة تُحدث من خلالها التغيير الثوري المنشود، بعد صراع مع أعدائها، سواء كان عدوها المُحتل الأجنبي كما حدث مع ثورات وحركات التحرر الوطني، كالثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية وغيرهما، أو كان عدوها نظام حكم داخلي يمارس الاستبداد والفساد، كما حدث مع ثورات الشعوب الحرة، كالثورة الفرنسية والثورة الإيرانية وغيرهما.
واذا كان من المألوف إقامة سلطة بعد المقاومة عندما تنتصر الثورات وحركات المقاومة على اعدائها، فإنه من غير المألوف أن تُقام سلطة لمقاومة وثورة لم تنتصر بعد، ولم تنجز مشروعها الوطني بعد، ولم تحقق أهدافها الوطنية بعد. وإذا كان من المحتمل أن يتحوّل الثوار والمقاومون في تلك البلدان المنتصرة ثوراتها إلى نخبة حاكمة وطبقة مسيطرة تحتكر السلطة والثروة من دون شعبها، وتمنع تداولهما إلاّ في أبنائهم ومن نافقهم من الاتباع المقربين؛ فإنه لا ينبغي أن يحدث ذلك في ثورة ومقاومة لم تنتصر بعد، وفي سلطة فوق الشعب وتحت الاحتلال.
حدَث ذلك في التجربة الفلسطينية ولا زال يحدث، عندما أُُنشأت السلطة الفلسطينية عام 1994، بعد سنوات طوال من ترويض الفكر السياسي الفلسطيني، بفعل عوامل التعرية الثورية، والتآكل في مفهوم الواقعية الثورية ثم السياسية، حتى وصلنا إلى محطة البرنامج المرحلي المعروف بالنقاط العشر عام 1974 الذي أسس لإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية بعد أن تبنى "إقامة السلطة الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية يتم تحريرها "على ان تقوم السلطة الوطنية بـ "استكمال تحرير كامل التراب الفلسطيني". وقد استغرق الأمر عشرين عاماً لتكتمل دائرة الترويض، فأُقيمت السلطة - بخلاف البرنامج المرحلي - على أرض غير مُحررة، وتحت الاحتلال، وبدون مشروع لاستكمال تحرير كامل التراب الفلسطيني؛ بل لم تستطع الحفاظ على ما لديها من تراب دون مُصادرة واستيطان. وهذا هو أصل المأزق الفلسطيني بعد مأزق الاحتلال، مأزق وجود سلطة تحت الاحتلال، ليست بالاحتلال، وليست بالمقاومة، بل إن أهم وظائف السلطة الوطنية هي قمع المقاومة الوطنية، وأصبحت السلطة المُراد لها أن تكون وطنية مُعيقة لإنجاز مشروع التحرير الوطني، وهي التي يُفترض أن تكون مرتكزاً للتحرير كما جاء في برنامج النقاط العشر.
اشكالية التناقض بين وظيفتي السلطة والمقاومة عندما يكون كلاهما تحت الاحتلال أو الحصار ليست الاشكالية الوحيدة في الحالة الفلسطينية، فهناك أمور مشتبهات في العلاقة بينهما. ومنها غياب اللون الأبيض والأسود في الحكم عليهما أحياناً ، لصالح اللون الرمادي الذي خلط الأوراق ببعضهما. فمن تبنى نهج التسوية وأقام السلطة عاد في مرحلة انتفاضة الأقصى عام 2000 وانخرط بالمقاومة الشعبية والمسلحة ضد الاحتلال، وكان على مستوى الخطاب السياسي، والفعل الثوري كفرسي رهان مع من تبنى نهج المقاومة كخيار للتحرير. ومن أهل السلطة من يرى أن وجود السلطة الوطنية في الأرض المُحتلة هو أكبر داعم لصمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، وصمود الشعب داخل وطنه أهم ركائز المقاومة, ومن تبنى نهج المقاومة أو جزء منهم عاد ودخل السلطة عبر بوابة الانتخابات المحكومة بسقف أوسلو، ثم تقاسم السلطة مع أصحابها عبر بوابة الحسم المحكوم بفوهة البنادق، فتحمل عبء ادارة الحياة في جزء من الوطن يفتقر إلى كل مقومات الحياة، فأضُطر لتبني جزء من خطاب السلطة تحت ضغط توفير متطلبات الشعب الحياتية، وهذا يحتاج إلى ضبط ايقاع المقاومة وفق استحقاقات السلطة.
خُلاصة الكلام فيما وقع بين المقاومة والسلطة من أمور مشتبهات جعلتهما أقرب الى التناقض من التكامل هو عدة خيارات، أولهما العودة إلى الأصل في مرحلة التحرر الوطني وفق قوانين الثورات ومسارات التاريخ، والأصل هو المقاومة، فالاحتلال يتطلب المقاومة، بدون سلطة حاجزة بينهما، وبما أن السلطة أُقيمت بالفعل كأمرٍ واقع، التراجع عنه- عند البعض- نوع من المغامرة وضرب من القفز في المجهول، فلا مناص سوى الخيار الثاني، وهو أن تكون السلطة حاضنة للمقاومة، وحامية لظهرها، وداعمة لصمود الشعب، والصمود أساس المقاومة، فتصبح بذلك سلطة المقاومة. وإن لم يكن هذا ولا ذاك، فالخيار الثالث بتقاسم الشرعية والوظائف بين السلطة والمقاومة، فتُقاس شرعية السلطة بمدى أدائها لوظيفتها في خدمة شعبها وضبط أمن المجتمع، وتُقاس شرعية المقاومة بمدى أدائها لوظيفتها في استخدام سلاحها ضد المحتلين من جيش ومستوطنين، على أن تخضعا لمرجعية وطنية واحدة شرعيتها في تمسكها بالثوابت الوطنية ونهج المقاومة، ومشروع وطني موّحد ركائزه التحرير والعودة والاستقلال. وان لم تكن الخيارات الثلاثة في دائرة الإمكان فليس أقل من أن لا تعيق السلطة عمل المقاومة، وان لا تنسّق مع الاحتلال ضد المقاومة وذلك أضعف الوطنية.