غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

كورونا.. جائحة عابرة أم نظام دولي جديد

قلم

بقلم /معتصم سهيل عدوان

بدأ الحديث في أواخر ديسمبر من عام 2019 عن ظهور فيروس جديد أطلق عليه اسم فايروس كورونا "كوفيد 19" في مدينة ووهان الصينية، ومع بدايات عام 2020 تسرب هذا الفايروس من الصين ليضرب جميع أرجاء المعمورة في فترة زمنية قياسية ملقياَ بظلاله الثقيلة على النظام الصحي حول العالم، وماهي إلا أسابيع وشهور معدودة حتى بدا واضحاً للجميع أن الاثار السياسة والاقتصادية لفيروس كورونا قد تتخطي بكثير أثاره الصحية.

الاثار المتوقعة لفيروس كورونا :

لطالما تحدث الساسة والمفكرين عن احتمالية تصاعد الدور الصيني حول العالم خلال الاعوام القليلة القادمة، وهو ما أشار اليه السيناتور الأمريكي ميت رومني في كلمة ألقاها أمام الاتحاد الديمقراطي الدولي في السادس من ديسمبر من عام 2019، حيث وضع رومني عدة سيناريوهات للدور الصيني المرتقب في السياسة الدولية خلال الأعوام القادمة وكان من أبرز هذه السيناريوهات السيناريو المتعلق بتصاعد النفوذ الصيني بشكل تدريجي على الساحة الدولية، وسنتحدث من خلال هذا التقرير بشيء من التفصيل عن هذا السيناريو وعن كيفية إسهام أزمة كورونا في ترجيحه على السيناريوهات الأخرى :

سيناريو الصعود الصيني المرتقب : نظام دولي جديد تكون فيه الصين أبرز اللاعبين الدوليين:

تحدث السيناتور ميت رومني عن هذا السيناريو بشكل معمق قبل بداء انتشار فيروس كورونا حول العالم، ومما لاشك فيه أن انتشار الفيروس يسهم بشكل فاعل في ترجيح هذا السيناريو وذلك لأسباب سياسية واقتصادية عدة لعل أبرزها :

أولاً: العوامل السياسية : هناك العديد من العوامل السياسية التي قد تعزز الصعود الصيني في الساحة الدولية خلال العقود القليلة القادمة ولعل أبرز هذه العوامل هو سياسة الانكفاء التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية.

1- انكفاء الولايات المتحدة على نفسها : في خطابه الشهير حول الدور الصيني المحتمل أشار السيناتور ميت إلى أن أحد أهم الأسباب التي ترجح سيناريو تصاعد النفوذ الصيني حول العالم هو الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع المنظومة الدولية والقائمة على رفع شعار أمريكا أولاً في الوقت التي تعمل فيه الصين على زيادة مشاركتها الدولية في العديد من المجالات، وقد بدت هذه السياسة أكثر وضوحاً خلال أزمة كورونا، حيث توجهت الولايات المتحدة إلى إغلاق حدودها مع الاتحاد الأوروبي في وقت مبكر جداً، ولم تقدم الولايات المتحدة أي مساعدات تذكر لحلفائها الأوروبيين أو غيرهم، بينما قدمت الصين مساعدات طبية عاجلة إلي العديد من الدول حول العالم منها ايطاليا واسبانيا وصربيا وهو ما دفع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش إلى القول أن بلاده لن تنسي موقف الصين التي وقفت إلى جانبها في الوقت الذي لم تجد فيه بلاده أي من حلفائها، بالإضافة إلي ذلك لبت الصين العديد من نداءات الاستغاثة من الدول حول العالم وهو ما دفع فرنسا إلى طلب المساعدة من الصين في توفير 2مليار كمامة صحية دون توجيه الطلب للولايات المتحدة رغم العلاقات الثنائية المميزة التي تربط البلدين، ولعل أفضل تعبير عن الدور القيادي التي تلعبه الصين في الأزمة العالمية القائمة حالياً جاء في حديث مساعد وزير الخارجية الامريكي السابق دنس روس حيث أشار في مقال له في الواشنطن بوست إلى أن الصين تتصرف الآن كقائد عالمي بينما الولايات المتحدة تنطوي على نفسها، وبناء على ما سبق يمكن القول أن واشنطن أخفقت في اختبار القيادة في ضوء ما أعتُبر تخاذلاً منها نحو حلفائها الأوروبيين والعالم أجمع وهو ما يترك الباب موارباً أمام الصين للعب دور قيادي عالمي خلال السنوات القليلة القادمة.

2- تراجع بعض الأفكار السياسية : من المتوقع أن يتسبب انتشار فيروس كورونا في تراجع العديد من الأفكار والنظم السياسية لصالح أفكار ونظم أخرى ولعل من أبزرها :

· تراجع الأنظمة الديمقراطية لصالح الأنظمة الشمولية: من المتوقع أن تسهم تجربة أزمة كورونا في زيادة تأييد الشعوب لفكرة الأنظمة الشمولية والتي استطاعت في العديد من الدول مثل الصين وغيرها السيطرة على الوباء وذلك بفعل قدرتها على فرض التوجيهات المتعلقة بالحجر الصحي على المواطنين بفعل سطوة أنظمة الحكم فيها وتعود الشعوب في هذه الدول على إطاعة التوجيهات الحكومية والالتزام بها، بينما واجهت الأنظمة الديمقراطية العديد من العوائق والعقبات في تنفيذ إجراءات حظر التجول والحجر الصحي على المواطنين الذين لم يعتادوا تقييد حرياتهم والانصياع لأوامر الحكومات، الأمر الذي تسبب في تفشي المرض في هذه الدول وهو ما أثار العديد من الانتقادات ضد الأنظمة الديمقراطية وما تمنحه من حرية للمواطن قد تتسبب في بعض الأحيان في التأثير سلباً على المصلحة العامة، وعليه أثبتت جائحة كورونا أن النظم الشمولية أكثر قدرة وفعالية في التعامل مع الأزمات العالمية مقارنة مع النظم الديمقراطية.

· تراجع فكرة العولمة لصالح الدولة القومية: من المتوقع أن تؤدي أزمة كورونا إلى تراجع فكرة العولمة في مقابل صعود فكرة الدولة القومية وذلك بسبب عاملين رئيسان :

1- فشل فكرة سلاسل الإنتاج والتوريد: حيث أثبتت أزمة كورونا أن فكرة العولمة قد تكون مضرة بإنتاجية الدول، فعلى سبيل المثال من المحتمل أن يؤدي إصابة دولة بأزمة ما إلى إيقاف الانتاج في هذه الدولة، وبالتالي توقف الإنتاج في العديد من الدول التي تعتمد "سلاسل انتاج" تكون الدولة المصابة جزء منها، وهو ما حدث عندما أغلقت الصين جزاءً من مصانعها، الأمر الذي أدى إلى توقف العديد من شركات الإنتاج في دول أخرى بفعل اعتمادها في بعض أجزاءها على منتجات الشركات الصينية، ومن المتوقع أن يؤدي هذا الخلال الذي أصاب سلاسل الإنتاج والتوريد خلال أزمة كورونا إلى تصاعد فكرة الاعتماد والاكتفاء الذاتي للدولة وهو ما يرفع أسهم فكرة الدولة القومية ضد فكرة العولمة.

2- فشل الاتحادات في التضامن في مواجهة الأزمة: من المتوقع أن تترك أزمة كورونا آثارها الحادة على الاتحادات الدولية القائمة حالياً وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي، فقد أظهرت الأزمة ضعفاً في مبدأ "التضامن" الذي يشكل أساس الاتحاد الأوروبي، حيث رجحت دول الاتحاد المنافع القومية على مصالح الاتحاد، وقد تجلى ذلك في تجربة ايطاليا وهي أكثر دول الاتحاد الاوربي تضرراً من الأزمة، حيث أنه ومع تدهور الوضع الصحي في البلاد طلبت الحكومة الإيطالية المساعدة من الدول الأعضاء في الاتحاد، فجاء الرد الأوروبي بإعلان فرنسا وألمانيا فرض قيود على صادرات المستلزمات الطبية بينما لم تستجب الدول الأخرى لطلب المساعدة من ايطاليا وهو ما أثار غضب ايطاليا والذي عبر عنه رئيس الوزراء الإيطالي، جوسيبي كونتي بالقول أنه وفي حال لم تُثبت أوروبا أنها على مستوى هذا التحدي، فإن الاتحاد الأوروبي قد يفقد بنظر مواطنينا، سبب وجوده، محذراً من انهيار الاتحاد الأوروبي، وعليه يرجح الكثير من الساسة والمفكرين أن تؤدي أزمة كورونا إلى ضعف أو تفكك العديد من الاتحادات القائمة وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي وهو ما عبر عنه السيد حسن نصر الله في كلمته المتلفزة بالأمس بالقول: لا نعرف هل سيبقى الاتحاد الأوروبي أم لا، وبناء على ما سبق يمكن القول أن جائحة كورونا والتفات الدول نحو مصالحها الخاصة في مواجهته سيعزز فكرة الدولية القومية على حساب فكرة العولمة واستمرار التكتلات الاتحادية.

ثانياً: العوامل الاقتصادية :

تعرض الاقتصاد الأمريكي لانتكاسات متتالية في ظل تفشي فيروس كورونا حول العالم، وتتمثل أبرز هذه الانتكاسات فيما يلي :

1- هبوط سعر النفط :

أدى انتشار فيروس كورونا إلى تعطيل مئات الالاف من المصانع ووسائل النقل حول العالم وهو ما تسبب في انخفاض الطلب على النفط ومن ثمة انخفاض أسعاره - إذ أصبحت الكمية المعروضة أكبر من الكمية المطلوبة- وهو ما أدخل كبار منتجي النفط حول العالم في مفاوضات بشأن تخفيض إنتاج النفط وتقليل العرض منه بما يوازي الطلب المنخفض بعد أزمة كورونا في سبيل الحفاظ على استقرار أسعاره، إلا أن روسيا وهي أحد أكبر منتجي النفط حول العالم رفضت الاقتراح السعودي لتخفيض انتاج النفط وهو ما أشعل حرب نفطية بين البلدين، حيث سارعت السعودية إلى مضاعفة انتاجها من النفط بما يقرب من 3 مليون برميل يوميا مع تقديم عروض مغرية على أسعار النفط لعملائها، الأمر الذي أدى الي زيادة المعروض من النفط ومن ثمة انخفاض غير مسبوق في أسعاره ليصل إلى 20 دولار للبرميل الواحد، ومن المتوقع أن يؤدي الانخفاض الحاد في سعر برميل النفط إلى إفلاس شركات النفط الصخري الأمريكي والتي تنتج برميل النفط بتكلفة حدية تقارب ال 35 دولار للبرميل الواحد، مما يعني أنها مضطرة للبيع بسعر أقل من سعر تكلفة انتاجها وهو ما يهدد بانهيارها في القريب العاجل، وعليه من المتوقع أن يؤدي انخفاض أسعار النفط بهذا المستوى القياسي إلى انهيار قطاع الانتاج النفطي أهم القطاعات الانتاجية في الولايات المتحدة أو تكبده خسائر فادحة على أقل تقدير وهو ما قد يلحق أضرار بليغة بالاقتصاد الأمريكي على المدى المنظور.

2- الارتفاع السريع للدولار الأمريكي وامكانية انهياره :

ارتفع الدولار خلال الاسابيع القليلة الماضية بشكل قوي ولافت للانتباه، وتجدر الإشارة إلى أن ارتفاع سعر الدولار الامريكي يؤثر سلبا على الاقتصاد الأمريكي حيث يؤدي ارتفاع الدولار إلى تقليل الصادرات الأمريكية بشكل حاد وزيادة الواردات، وهو ما قد يسبب خلل عميق في الميزان التجاري للدولة، الأمر الذي دفع مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي لخفض سعر الفائدة بالقرب من صفر في مسعى منه لزيادة الاقراض وتوفير الدولار في السوق الأمريكية وهو ما يعمل على خفض أسعاره، ويجدر هنا التنويه إلى أن الارتفاع المطرد لقيمة الدولار كان نتيجة لانهيار البورصات الأمريكية وتوجه أغلب المستثمرين إلى بيع أسهمهم مما أدى إلي زيادة الطلب على الدولار وارتفاع أسعاره، وعليه مثل الدولار عملة أمنة بشكل مؤقت وهو ما لا يحدث عادة في الازمات الاقتصادية العالمية إذ يتوجه أغلب المستثمرين في الأزمات الاقتصادية إلى التخلي عن الدولار وشراء الذهب كعملة أمنة وهو ما حدث خلال الأيام الأخيرة الماضية إذ بداء سعر الدولار بالهبوط مع توقعات باستمرار هبوطه وربما انهياره في مقابل ارتفاع مطرد لسعر الذهب، وبناء على ما سبق يمكن القول أن الادارة الأمريكية أصبحت غير قادرة على فرض سياستها الاقتصادية والتحكم بالسوق في ظل تصاعد مخاوف المستثمرين فعلى الرغم من الخطوات الاستثنائية التي اتخذتها الإدارة الامريكية للتحكم بحركة السوق إلا أن جميع خطواتها باءت بالفشل ولا زال الدولار الامريكي يتحرك صعوداَ وهبوطاَ بعيد عن سيطرة الحكومة الأمريكية وهو ما ينبأ بإمكانية انخفاضه بشكل حاد جداً في الفترة القادمة - في ظل تفشي فيروس كورونا في الولايات المتحدة – وهو ما قد يلحق أضرار بليغة بالاقتصاد الأمريكي وقد يضعه على حافة الانهيار.

3- انهيار البورصة الأمريكية :

لازالت البورصة الأمريكية تهوي بمعدلات تاريخية منذ بدء تفشي فيروس كورونا وذلك على غرار توجه أغلب المستثمرين لبيع أسهمهم في الشركات الأمريكية الكبرى وهو ما يؤدي إلى زيادة العرض من الأسهم ومن ثمة هبوطها أسعارها بشكل حاد، وعلى الرغم من جهود الإدارة الأمريكية - والتي كان آخرها إقرار خطة إنقاذ وطني هي الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة بقيمة 2 تريليون دولار- بهدف طمئنت المستثمرين والدفع نحو استقرار البورصات الأمريكية، ومن الملاحظ أن تأثير هذه الإجراءات -على الرغم من قوتها- قد كان محدود جداً على سوق التداول الأمريكي حيث ساهمت في استقرار وصعود البورصة الأمريكية لعدة أيام فقط قبل عودتها للتراجع بشكل حاد في ظل زيادة مخاوف المستثمرين من انهيار الاقتصاد الأمريكي بعد تفشي فيروس كورونا في الولايات المتحدة، وعليه شهدت تداولات الجمعة انخفاضاَ حاداَ في البورصة الأمريكية والأوروبية في مقابل صعود مؤشر البورصات في كل من الصين وكوريا الجنوبية.

وبناء على ما سبق وفي ظل الاخفاق الذي أظهرته الأنظمة الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع أزمة تفشي وباء كورونا، ونظراً للأثار السلبية والعميقة والتي من المتوقع أن تتركها أزمة تفشي فيروس كورونا على الحياة الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة و أوروبا، يرى العديد من الساسة والباحثين أن العالم سيشهد خلال السنين والعقود القليلة القادمة انتقال الثقل السياسي والنفوذ الاقتصادي بشكل تدريجي من الغرب إلي الشرق حيث أظهرت دول عدة هناك مثل الصين وكوريا وسنغافورة قدرة أفضل على إدارة الازمات العالمية مقارنة مع دول غربية عدة في مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وفي ظل ما سبق الإشارة إليه ونظراً للفشل الذريع التي منيت به الولايات المتحدة في معركتها ضد فيروس كورونا يتوقع الساسة والمحليين أن يشهد العالم العديد من التغيرات الجوهرية بعد زوال أزمة كورونا لعل أبرزها : 1- من المتوقع أن تطوي أزمة كورونا صفحة التفرد الأمريكي المطلق في قيادة العالم وذلك بسبب فشل أمريكا في اختبار القيادة في ظل أزمة كورونا، بالإضافة إلى التداعيات العميقة المتوقع أن تتركها هذه الأزمة على الاقتصاد الأمريكي.

2- من المتوقع أن نشهد خلال الفترة القادمة ولادة نظام عالمي جديد يتركز شيء من ثقله السياسي والاقتصادي في الشرق "الصين" بدلاً من الغرب "الولايات المتحدة الأمريكية".

3- من المتوقع أن تؤدي أزمة كورونا إلى تراجع فكرة العولمة لصالح فكرة الدولة القومية.

4- من المتوقع أن تسهد الساحة الدولية ضعضعة أو تفكك العديد من الاتحادات الدولية القائمة حالياً وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي.
"جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز".