بقلم / وائل بعلوشة
تنامى الحديث خلال العقد الأخير حول المساءلة المجتمعية، وتحديداً بين أوساط المجتمع المدني، الذي يراقب بدوره أداء المؤسسة الرسمية ويهتم بمسألة الحكم. في بداية الأمر، استقبلت المؤسسة الرسمية الأمر برفض مطلق، إلى أن استطاع المنظرون وضع المساءلة المجتمعية موضع نقاش جادّ وفي حيّز التطبيق، وإقناع مديري الشأن العام، بأن المساءلة لا تعني بالضرورة توجيه اتهام لجهة ما أو محاسبتها، وإنما تسعى للتفسير، وتطلب التوضيح، ما يعدّ حقاً من حقوق المواطن؛ حقّه في أن يعرف.
أداة للفهم المشترك
تساهم المساءلة المجتمعية في إزالة اللّبس الذي قد ينشأ بفعل ضعف الاتصال مع المجتمع المدني والإعلام، (قناة اتصال المواطن مع المؤسسة الرسمية). لا شك أن تساؤلات المواطنين لا تنقطع بتاتاً، وبالتالي، فإنها وإن لم تقابَلُ بإجابات شافية، ستتحول لشكوك واتهامات من المواطن للمسؤول، الأمر الذي سيؤدي حتماً الى ضعف في ثقة المواطن. بناء على ما سبق؛ تصبح المساءلة فعلاً محموداً للطرفين، لتصبح المعادلة كالتالي: مواطن يعرف وعلى اطلاع، ومسؤول يستحقّ الثقة وعلى اطلاع باحتياجات المواطن.
وعلى صعيد آخر وذي صلة، تساهم المساءلة المجتمعية في الحدّ من استخدام السلطة على نحو منفرد. عندما يمارس مديرو الشأن العام وصانعو القرار السلطة دون مساءلة من المواطن عبر منصاته المختلفة، سواء من خلال المجتمع المدني أو الإعلام التقليدي والجديد؛ يصبح الأمر أكثر سوءاً. نستطيع المقاربة والقول أننا نعيش وضعاً مشابهاً في الحالة الفلسطينية، التي تعاني جذرياً من أزمة سياسية، حيث تُمنع المؤسسات الرقابية الرسمية من القيام بدورها كما يجب، وفق ما هو منصوص عليه في القانون الأساسي. هنا، تكمن أهمية هذه الأداة "المساءلة المجتمعية" - التي استطاعت ولو بشكل محدود- على مدار الأعوام الماضية ملْء الفراغ الذي خلّفه الواقع السياسي.
ولأن المساءلة المجتمعية مصلحة مشتركة بين الحاكم والمحكوم؛ علينا توفير البنية التحتية المناسبة لتثبيتها ودعم انتشارها، ولعلّ أهم ما يمكن الحديث عنه هنا، هو تعزيز مبدأ الشفافية، المرادف للوضوح والانفتاح وإتاحة ما يلزم من معلومات، إذ يحق للمواطنين الوصول إلى المعلومات من جهات الإختصاص التي تلتزم من جهتها بتقديمها. وحريّ على صانع القرار أن يؤمن بأن للمواطن حقّ في طلب التبرير والشرح للأعمال التي يقوم بها الأول، ما لا يعني التشكيك، وإنما رغبة في الفهم، وشكلاً من أشكال المشاركة أيضاً، إذ تعدّ المساءلة المجتمعية مساحة للتعبير عن احتياجات المواطن، وتُزيد من فعالية مشاركته في الشأن العام، وتحثّه على التحرك إلى مستوى أبعد من مجرد الاحتجاج والرفض. إضافة لكون المساءلة المجتمعية فرصة مهمة للفئات الأكثر هشاشة في المجتمع؛ فهي توفر لهم فرصة الـتأثير على السياسات العامة، وتحسين تقديم الخدمات لهم.
بالاستناد على ما سبق من تقديم؛ نستطيع القول بأن المساءلة المجتمعية تحقق عدة أغراض، أهمّها زيادة فعالية تقديم الخدمات في ضوء سرعة الإستجابة إلى احتياجات المواطنين، من خلال الإبلاغ عن السياسات العامة في ظلّ توسيع نطاق مدخلات المواطنين المتزايدة، وفاءً ووفاقاً بالعقد الاجتماعي بين الحكومة والمواطنين. كما أنها تشكل فرصة مهمة للمواطنين للمشاركة في الإدارة العامة للبلاد، وتعزز لديهم الشعور بالمواطنة، تلك الفكرة المبنية على الحق والواجب، وتنشئ التزاماً أخلاقياً لدى المواطن، بأن عليه واجب المشاركة، وإبداء الرأي، والسعي الدائم للاطلاع والمعرفة. وفق هذه السيرورة المعرفية، وبشكل تلقائي، ستسقط الكثير من التساؤلات، لأن المواطن أصبح على دراية وعلم بما يحدث، وبالتالي، ستزداد الثقة بينه وبين مزوّدي الخدمات.
تكمن خلاصة القول أنه عندما تصبح المساءلة المجتمعية أحد المتطلبات الحيوية لتحسين نوعية حياة الناس، بالإضافة الى إسهامها في عملية تنمية المجتمع، وتحقيق المزيد من الرفاه للمجتمع والمواطنين؛ فإنها تعمل على تحسين نُظم إدارة الحكم، من خلال إخضاع المسؤولين للمساءلة كعنصر أساسي، وذلك لضمان الحكم الرشيد، وكذلك تحسين جودة الخدمات العامة، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، والحدّ من فرص انتشار الفساد، وضمان مشاركة المواطنين في رسم السياسات ومتابعة تطبيقها، الأمر الذي سيقلل من مستوى الإقصاء والتهميش القائم على النوع الاجتماعي بمفهومه الشامل. كما وتنطلق أهمية المساءلة المجتمعية من منطلقات عديدّة، منها: تعزيز الحوكمة، وتحسين فرص التنمية المجتمعية عبر الاستخدام الأمثل لمواردنا المتواضعة وحاجتنا الماسة للحفاظ عليها في ظل واقعنا الفلسطيني، وناهيك عن رسم السياسات بالمشاركة. وقد نضطر للتوقف هنا قليلاً، حيث تعتبر مسألة إشراك المواطنين في رسم السياسات، تجسيداً فعلياً لفكرة الحكم بالمشاركة، التي تتيح الفرصة للمشاركة في تحديد ملامح المستقبل الجمعي، إذ تصبح المسؤولية جماعية، يتحمل أعباءها الجميع مثلما يجني ثمارها الجميع أيضاً، الأمر الذي يضمن مستوىً أكبر وأكثر فعالية من انخراط المواطنين في قضايا الشـأن العام، ما يمكّنهم من المساءلة والرقابة على الأداء العام، والمساهمة في الجهد الرسمي والأهلي المبذول لجهة تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد.