بقلم الإعلامي: عوض أبو دقة
حدثني أحد الإخوة الذين عايشوا اللقاءات الفكرية التي كانت تدورُ في أوساط الطلبة الفلسطينيين في مصر نهاية سبعينيات القرن الماضي ومطلع الثمانينيات، عن تحشيد الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي (رحمه الله) على غير العادة للقاءٍ هام وعاجل.
اعتاد د. الشقاقي على دعوة الطلبة الفلسطينيين من كافة المشارب السياسية، وحتى أولئك الذين لا يَميلون لأي اتجاه سياسي لهذه اللقاءات التي تُعقد بشكلٍ دوري، قبل أن تتفتق لديه فكرة إنشاء حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
في ذلك اللقاء، استعرضَ د. الشقاقي مخاطر التطبيع مع المحتل الإسرائيلي، ولفت إلى أن أول مراحله أو حلقاته ستدور بمصر، لكن العدو سرعان ما سيعمل على جر الدول العربية واحدةً تلو الأخرى له طوعاً أو كرهاً.
ونوه المتحدثُ -وبالمناسبة هو من المحسوبين على حركة فتح-إلى أن بعض الحضور استخف يومها مما تحدثَ به د. الشقاقي، فيما البعضُ كانَ واجماً ويلتزمُ الصمتَ من الدهشة، أما البعض الآخر فكان مؤمناً بحديث الرجل، فهم يُدركون عمق قراءاته، ودقة ملاحظاته، وقوة بصيرته.
ذلك اللقاء جاء عام 1979، عقب توقيع الرئيس المصري -وقتذاك-أنور السادات لما بات يُعرف باتفاقية "كامب ديفيد"، والتي نتجت عن الالتزام باتفاقات إطارية مع "إسرائيل"، في 17 أيلول/ سبتمبر عام 1978، وذلك بعد مفاوضاتٍ سرية لم تتعد 12 يوماً.
ومن المعروف عن د. الشقاقي أنه كان يتابعُ أدق تفاصيل الأحداث، وكان لا يتوقف في متابعته لأي حدثٍ عند حدود ما تنشرُ الصحافة العربية فحسب، بل كان مُشتركاً في صحفٍ ومجلاتٍ دولية باللغة الإنجليزية، يداوم على تصفحها يومياً.
حدثني شخصٌ آخر من المقربين للدكتور الشقاقي أنه أخضع اتفاقية "كامب ديفيد" بموادها التسعة، والبنودَ المتعلقة بكل مادة لعملية تشريحٍ دقيقة، فقد تعامل معها كأنها جثةُ ميت. ومن المعلوم بأن أحد مساقات كلية الطب البشري -التي كان د. الشقاقي أحد طلبتها المميزين-خلال مراحل الدراسة، يُعرَف باسم Anatomy (علم التشريح)، وهي كلمة يونانية مؤلفة من مقطعين (Ana) بمعنى فوق، و(Tom) بمعنى تقطيع، وهي عملية مُعقدة، تتضمن أساليب تُستخدم في فتح الجسم، ودراسة أعضائه كلاً على حده، ويكمُن الهدف من وراء ذلك بالأساس، التَعرُّف على تركيب الجسم، ووصفه.
وكان أكثر ما استوقف د. الشقاقي ما ورد في ديباجة الاتفاقية (ملاحظة: الكاتبُ وضعَ أقواساً مع مصطلحات لا تنسجمُ مع قناعاته) : "إن حكومتي جمهورية مصر العربية و"دولة إسرائيل"، اقتناعاً منهما بالضرورة الماسة لإقامة "سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط" وفقاً لقراري مجلس الأمن 242 و338، إذ تؤكدان من جديد التزامهما "بإطار السلام في الشرق الأوسط المتفق عليه في كامب ديفد" المؤرخ يوم 17 سبتمبر/ أيلول 1978، وإذ تلاحظان أن الإطار المشار إليه إنما قصد به أن يكون "أساساً للسلام" ليس بين مصر و"إسرائيل" فحسب، بل أيضًا بين "إسرائيل" وأي من جيرانها العرب -كل في ما يخصه- ممن يكون على استعداد للتفاوض من أجل "السلام" معها على هذا الأساس. ورغبة منهما في إنهاء حالة الحرب بينهما و"إقامة سلام" تستطيع فيه كل دولة في المنطقة أن "تعيش في أمن"، واقتناعاً منهما بأن عقد "معاهدة سلام" بين مصر و"إسرائيل" يعتبر خطوة هامة في طريق "السلام الشامل" في المنطقة والتوصل إلى تسوية "للنزاع العربي-الإسرائيلي" بكافة نواحيه. وإذ تدعوان الأطراف العربية الأخرى في "النزاع" إلى الاشتراك في "عملية السلام" مع "إسرائيل" على "أساس مبادئ إطار السلام" المشار إليها آنفاً واسترشاداً بها ...".
وعليه، فإن ما طُرح في هذه الديباجة، تأسس بموجبه أو بالأحرى كان مَدخلاً لسلسلة اتفاقيات جديدة، منها اتفاق "أوسلو" مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، واتفاق "وادي عربة" مع الأردن عام 1994، والاتفاق الذي حاولوا فرضه على الرئيس الراحل ياسر عرفات في قمة "كامب ديفيد2" عام 2000، حيث أقرَّ رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي -آنذاك- إيهود باراك، بأنه مَارس من خلال رسالةٍ شديدة اللهجة وجهها عبر الرئيس الأمريكي -وقتذاك- بيل كلينتون، ضغوطاً لدفع أبي عمار إلى تقديم تنازلات، وإعلان موافقته على الشروط الإسرائيلية، بعد أن رفض أيَّ تنازلٍ عن القدس، وعن السيادة الفلسطينية فيها.
لاحقاً أدرك الرئيس الراحل ياسر عرفات، خطورة اللعبة، فأعاد الكرةَ للشعب الفلسطيني من جديد، لتتفجر انتفاضة الأقصى نهاية أيلول/ سبتمبر عام 2000، وتكون بمثابة جدار صد للمطامع والأحلام الإسرائيلية وبقوة.
اليوم تعود إلى الواجهة اتفاقيات التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي برعاية أمريكية، ولكن هذه المرّة بمسمياتٍ تتعدى إطلاق اسم المكان الذي عُقدت به، كاتفاقيات "كامب ديفيد" أو "أوسلو" أو "وادي عربة" أو "طابا"، ولعل في ذلك أبعاداً ودلالات عميقة حاولوا تسويقها إعلامياً بأن النبي إبراهيم، المُلقب بأبي الأنبياء، وهو شخصية دينية محل تقدير واحترام كبيرين في الديانتين الإسلامية واليهودية، ويعد نبيًا ورسولًا في كلا الديانتين، وينتسب إليه اليهود من ولده إسحاق، بينما ينتسب إليه العرب وعلى رأسهم النبي محمد من ولده إسماعيل، وتنتسب إليه الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، إذ تُسمى ب"الديانات الإبراهيمية"، كما يدَّعون.
ولتوضيح ما يريدون، اسمحوا لي هنا أن استعرض أقوالاً مقتبسة، جاءت خلال منتدىً سياسي افتراضي نظمه معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، بعنوان (الإنجاز الإماراتي-الإسرائيلي: التداعيات الثنائية والإقليمية والسياسة الأمريكية)، وذلك في الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2020، جاء فيه على لسان ابتسام الكتبي، وهي مؤسِسة ورئيسة مركز الإمارات للسياسات:"نشأ الجيل الإماراتي الأكبر سناً على سردية مفادها بأن "إسرائيل" هي عدو، إلّا أن الجيل الأصغر سناً لديه وجهة نظر مختلفة. فدولة الإمارات تضمّ 200 جنسية، وقد أيقنت كيفية "ضمان تعايشها بشكل سلمي معاً"، و"اتفاق أبراهام" ليس وليد اللحظة؛ فقد كانت هناك فترة طويلة تطوّرت خلالها العلاقات بين "إسرائيل" والإمارات، شملت زيارات وزارية متبادلة، وأنشطة رياضية، ووجود "بيت العائلة الإبراهيمية" المخصص للتسامح الديني. وأخيراً، تميل الإمارات الآن نحو "الإسلام المعتدل"...".
- ذات المنتدى، كشفت السفيرة الأمريكية باربارا ليف، وهي زميلة أقدم في معهد واشنطن، عن كون "قيادة الإمارات كانت طوال العقد الماضي تختبر حالة التطبيع -سواء بين شعبها أو في المنطقة -كما أن التغطية الإعلامية الإماراتية لإسرائيل لم تكن انفعالية، وفي حين انتهجت القيادة مقاربةً حذرة إزاء الظهور العلني للوفد الإسرائيلي حين بدأت أبوظبي تستضيف اجتماعات "الوكالة الدولية للطاقة المتجددة" التابعة للأمم المتحدة في 2015، تمّ إيلاء أهميةً متزايدة ومقصودة للاتصالات على مستوى الأفراد. وكان الهدف من هذه الخطوات جعل موقف الإمارات متفرداً في المنطقة في نظر الولايات المتحدة، ونظر شعبها على حد سواء".
وبحسب باربارا فإن السؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة للولايات المتحدة: هو كيفية البناء بشكل استراتيجي على "الإنجازات" (التطبيع) التي سبق أن تحققت، والتحرك في نهاية المطاف نحو حلّ القضية الفلسطينية، (..) مع التركيز على تشجيع الشركاء في المنطقة على القيام بما بدأته الإمارات قبل بضع سنوات - أي تغيير البيئة في البلاد لإعداد شعبها للتطبيع الرسمي في مرحلةٍ ما- وهذا يعني رفع القيود عن الاتصالات على مستوى الأفراد، وتعزيز الحوار بين الأديان، وتغيير نبرة وسائل الإعلام الحكومية تجاه "إسرائيل"، والعمل بشكل عام على تغيير البيئة محلياً لكي لا يبقى التطبيع فكرةً غير واردة على الإطلاق.
ولعل ما ختمت به باربارا حديثها، هو مكمن خطورة "اتفاقات أبراهام" اليوم، والتي نحتاج إلى لقراءتها بتمعن دقيق، ووضع الخطط العملية الكفيلة بكبحها.
وبمرارة أتساءل: ماذا فعلنا نحن كعرب لصد كلِّ ذلك؟!.. أين هي مخططاتنا للدفاع عن عواصمنا التي باتت تتعرضُ لاحتلالٍ من نوع آخر أشد خطورةً من ذلك الذي تتعرض له مدينة القدس؟!.
باعتقادي، أن هذا الذلَّ والانكسار الذي نعيش تفاصيله ووقائعه اليوم -بكل أسف-سيقود جماهير الأمة للتحرك في لحظةٍ ما يَقترفُ فيها أعداؤنا خطوةً حمقاء مبنيةً على استخفافهم بنا، ووصلوهم لدرجةٍ عالية من الاستعلاء، والرهان الخاسر على الأنظمة التي اعتقدوا بأنها ستنجح في تكبيل كرامة وصحوة الشعوب، وقتها سنَشهدُ حالةَ نهوضٍ نستعيدُ معها سريعاً مجدنا وعزنا الذي اشتغلوا على تغييبه ببرامج وأساليب متعددة، كي يوصلونا لحالة الوهن، وهي التي شخصها رسولنا الكريم قبل ما يزيد عن 1400 عام.
خلاصةُ القول: يجب ألا يتسلل إلى قلوبنا اليأس مما وصل إليه حالنا من ضعفٍ وهوان، فالأصل هنا أن يشتغل كلُ واحد منا على نفسه، ونفسه فقط في البداية، بعدها لن نجدَ صعوبةً بالمطلق في أن نتشكلَ بنياناً مرصوصاً يَشد بعضه بعضاً للمواجهة، مصداقاً لقوله تعالى :"إن الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم"، وقوله أيضاً "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويُثبِّت أقدامكم"، وقول رسولنا الكريم "يُسلط اللهُ عليكم ذلًّا لا يَنزعه حتى تَرجعوا إلى دينكم"، وعليه فالأمر ببساطة شديدة يجبُ أن نُصلِّح علاقاتنا الشخصية مع الله بشكلٍ فردي، وهو كفيلٌ بالتيسير، ولمِّ الصف، وتحقيق النصر بعد ذلك، مِصداقاً لقوله جلَّ في علاه، في وعدٍ لا يُخلفه أبداً، إذا ما حققنا ما سبق :" وكان حقاً علينا نَصرُ المؤمنين".