على مدارِ عامٍ كامل، صباح كل يوم جمعة، كُنّا أربعة خامسهم المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، نلتقي أسبوعياً في بيتهِ في رفح جنوب غزة وفلسطين، على شكل أسرة حركية أميرها الشقاقي. نفتتح اللقاء بتلاوة كلّ أخ بضع آياتٍ من القرآن الكريم، ونُنهي اللقاء بحوارٍ فكري تكون المشاركة فيه إجباريّة كتلاوة القرآن، ويتوسّط اللقاء شرح بضع صفحاتٍ من كتاب "معالم في الطريق" للمفكر الإسلامي سيد قطب.
كان قطب بالنسبة إلى الشقاقي أحد أقطاب مثلّث الفكر الإسلامي الحديث مع المفكرين مالك بن نبي وعلي شريعتي، وأحد أعمدة نظريته الثورية مع الإمامين حسن البنا وآية الله الخميني، وكان كتاب "المعالم" بالنسبة إلى الشقاقي دستوراً لبناء الذات الثورية في الطليعة المؤمنة المجاهدة، وأداة لتحقيق معادلة الإيمان والوعي والثورة في جيل التحرير والعودة، ومدخلاً لاكتشاف كلمة السر التي تجمع بين الإسلام وفلسطين والجهاد. كان الشقاقي يشرح لنا كتاب "المعالم" بنقاء ثوري لا يعرف الوسط بين الحق والباطل، وصفاء منهجي لا يعرف الوسط بين الصواب والخطأ.
وبعد مرور ما يُقارب 4 عقود على قراءة كتاب "معالم في الطريق" برؤية الشقاقي الثورية، ومن ثم دراسة كاتب هذه السطور لفكر سيد قطب في مرحلة حياته الثانية بعد انتقاله من الأدب العربي إلى الفكر الإسلامي، دراسة شملت حوالى 20 كتاباً، بدأها بكتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وأنهاها بكتاب "معالم في الطريق"، وتوسّطها كتابه في تفسير القرآن الكريم "في ظلال القرآن"، الذي تمت قراءته في السجن كما كتبه قطب في السجن... بعد هذه الرحلة الطويلة من السفر في فكر سيد قطب، كان لا بد من توضيح بعض النقاط حول فكره وسط السيل الجارف من الكتابات التي لا ترى فيه سوى التطرف والتكفير، ولا تقرأ غير الحاكمية والجاهلية، وتضع القطبية والوهابية في بوتقةٍ واحدة.
هذا الربط بين القطبية (فكر سيد قطب) والوهابية (فكر محمد بن عبد الوهاب) له ما يبرره، لتشابه المفاهيم بينهما في: الحاكمية والجاهلية، والبراء والولاء، ودار الحرب ودار الإسلام، وتشابه النتائج التي أفرزت الجماعات الإسلامية المتطرفة في المدرستين: المصرية القطبية، والسعودية الوهابية. هذا التشابه أدى إلى تلاقح المدرستين في أفغانستان، فولد تنظيم "القاعدة" وفروعه، مثل "داعش" و"النصرة" وأخواتهما. وفيما عدا ذلك، ليس للربط بين القطبية والوهابية أي مبرر، فهما ليسا سواء.
هما ليسا سواء في الموقف من الحرية، فسيد قطب يؤمن بحرّية العقيدة للإنسان، ويُفسّر قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، بطريقة ترى "أنَّ حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي تثبت له بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداء"، ويرى مبدأ حرية الاعتقاد تجلّياً لتكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره. ولذلك، يُقرر أنَّ الجهاد فُرض لإزالة العقبات التي تحول بين المرء وحرية العقيدة. هذا الموقف الإنساني التحرري غير موجود في التراث الفكري الوهابي، بل يوجد نقيضه في التراث التاريخي الدموي ضد الآخر المختلف مع الوهابية دينياً ومذهبياً وفكرياً وسياسياً.
وهما أيضاً ليسا سواء في الموقف من الديمقراطية، فسيد قطب، وإنْ كان متحفظاً عن الديمقراطية كمصطلح، إلا أنّه يؤمن بها كمضمون، فيرى مثلاً "أنَّ اختيار المسلمين المُطلق هو المؤهل الوحيد للحكم"، فالشورى بين أهل الحل والعقد (الترشيح) والبيعة الإرادية بين الأمة والحاكم (الانتخاب) هما الطريق الوحيد لشرعية تولّي الحكم. ولذلك، رفض شرعية الخلافة الأموية، واعتبرها من وحي الجاهلية. هذا الموقف الديمقراطي يناقض فتاوى علماء الوهابية الذين يفتون بشرعية إمارة المتغلب بالقوة وولاية العهد بالتوريث، لإعطاء غطاء شرعي لاستيلاء آل سعود على الحكم بالقوة، وتوريث الحكم فيهم خلافاً لإرادة الشعب.
كما أنهما ليسا سواء في الموقف من المرأة، فسيد قطب يقرر المساواة بين الرجل والمرأة، فالإسلام، من وجهة نظره، "كفل للمرأة مساواة تامة مع الرجل من حيث الجنس والحقوق الإنسانية، ولم يقرر التفاضل إلا في بعض الملابسات المتعلقة بالاستعداد"، ويرى أنَّ "الإسلام حين منح المرأة حقوقها الروحية والمادية كان ينظر إلى صفتها الإنسانية ويسير مع نظرية إلى وحدة الإنسان".
هذا الموقف التقدمي يقابله الخطاب الوهابي الصحراوي المتشدد تجاه المرأة، حتى مقارنة بالخطاب السلفي التقليدي، فيركز على تأكيد دونية المرأة بالنسبة إلى الرجل، ويذهب باتجاه شيطنتها كمصدرٍ للغواية، ويروّج لثقافة ترى فيها عورة كلّها حتى اسمها، ويحصر وظيفتها في خدمة الرجل أو إمتاعه.
القطبية والوهابية ليسا سواء في الموقف من الثورة ضد الطغيان والاستعمار، فسيد قطب يرى "أنَّ الإسلام في صميمه حركة تحريرية... وما يعمر الإسلام قلباً، ثم يدعه صابراً ساكناً على الظلم في صوره جميعاً، سواء وقع هذا الظلم على شخصه أو وقع على الجماعة الإنسانية في أية أرض وفي ظل أيّ سلطان"، وأنَّ "الإسلام الذي يريده الأميريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار... والطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية...".
هذه الرؤية الثورية للإسلام يوجد نقيضها في "الإسلام الأمريكاني"، كما وصفه سيد قطب، أو "الإسلام الوهابي"، كما هو في الواقع، نظرياً بالفتاوى التي تخدم مصلحة الأميركيين والعربان، وعملياً بأفواج "المجاهدين" السائرين كالثيران المعصوبي الأعين في الساقية الأميركية.
هما ليسا سواء في الموقف من دراسة التاريخ، فسيد قطب انطلق في دراسته من منهجية ترى في التاريخ أحداثاً فعلها البشر غير المعصومين من الخطأ، وإن كانت الأحداث وقعت في عصر الصحابة – رضوان الله عليهم – وبالتحديد في عصر الخلفاء الراشدين، فبحث في أسباب الفتنة الكبرى، وانتقد سياسة المال وسياسة الحكم في عهد الخليفة الراشد الرابع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - واعتبرها سبباً في ظهور التفاوت الطبقي بين المسلمين، وتمكّن بني أمية من الخلافة، ومن ثم انحرافهم عن روح الإسلام. هذه الرؤية النقدية وجدت انتقاداً كبيراً من علماء الوهابية الذين اتهموه بسب الصحابة، ففسقوه وكادوا يكفرونه، لخروجه عن موقفهم في التوقف عندها وعدم فتح النقاش في أسبابها.
ليسا سواء في الموقف من الشيعة، فسيّد قطب، كعلماء الأزهر الأشاعرة، يعتبرهم مسلمين، ويجوز الأخذ من مذهبهم الفقهي، فكتب "في الظلال" مُفسّراً آيات الجهاد في سورة النساء، و"يخلص إلينا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية وفي النظام الإسلامي... وقد عدته الشيعة ركناً من أركان الإسلام، ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا".
هذا الموقف الواضح من الشيعة يقابله موقف علماء الوهابية في اعتبارهم كفاراً، كما ورد على لسان أئمتهم، ومن ذلك ما كُتب في موقع "الدرر السنية" الوهابي: "الحكم العام على الشيعة أنهم ضلال وفساق خارجون عن الحق وهالكون مع الفرق... ولا شك في خروجهم عن الملة الإسلامية".
خلاصة الأمر، من الواجب إنصاف المُفكر سيد قطب بعدم حصره في دائرة الفكر الوهابي، وأنَّ موضوع "الحاكمية" هو نقطة الالتقاء بينهما، على اختلافهم في التأصيل والتفصيل، فقطب وصف المجتمع بـ"الجاهلية"، وتلامذته اختلفوا في مضمونها بين الانحراف عن الإسلام والخروج من الإسلام، ومحمد بن عبد الوهاب وصف المجتمع بـ"الشرك"، وتلامذته اختلفوا في مضمونه بين الشرك الأصغر غير المُخرِج من الملة والشرك الأكبر المُخرِج من الملة.
وما عدا هذا التشابه ليسا سواء، فسيد قطب ينتمي إلى التيار الوسطي في العقيدة والفقه، والاتجاه الإنساني في الحرية، والتوجه الديمقراطي في الحكم، والمدرسة التقدمية تجاه المرأة، والنزعة الثورية في التغيير، والرؤية النقدية لدراسة التاريخ، والاتجاه الوحدوي الذي يجمع بين السنة والشيعة في بوتقةٍ واحدة... ففكر سيد قطب وفكر الوهابية ليسا سواء، والمسافة بينهما بعيدة بُعد المشرق عن المغرب، وبُعد الثُريا عن الثرى.