الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت
باعوا البلاد إلى أعدائهم طمعاً بالمال لكنما أوطانهم باعوا
قد يعذرون لو أن الجوع أرغمهم والله ما عطشوا يوماً ولا جاعوا
تلك البلاد إذا قلت: اسمها "وطن" لا يفهمون، ودون الفهم أطماع
فكر بموتك في أرض نشأت بها واترك لقبرك أرضاً طولها باع
(الشاعر/ إبراهيم طوقان – إلى باعي البلاد 1929)
لا يختلف الكل الفلسطيني بجميع أطيافه على أن وعد بلفور هو بداية نكبتهم عام 1948. وكتب الكثير في الأسباب والدوافع لإصدار وعد بلفور، والنتائج التي تداعت جراء صدوره، ولكن ثمة حقيقة كانت دائماً مخفية. لذلك نحاول قراءة وعد بلفور برؤية مغايرة في محاولة لكشف تلك الحقية المغيبة. قد لا تعجب البعض، ولكن الحقيقة مرة دائماً.
وعد بلفور البريطاني الصادر في الثاني من نوفمبر عام 1917 أي قبل أربعين يوماً من احتلال بريطانيا لفلسطين، شكل البداية لإقرار الوطن اليهودي، لا نختلف أن بريطانيا قد مهدت السبل المتعددة لإقامة هذا الوطن، من تعين مندوب سام يهودي بريطاني على فلسطين، إلى تعزيز الوجود اليهودي في المؤسسات الإدارية، ومنحهم الامتيازات والأراضي، والحرية في إقامة المستعمرات على أرض فلسطين.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، هل كان من الممكن تطبيق وعد بلفور دون منح اليهود الأرض؟. بعد ما يزيد عن مائة عام من صدور وعد بلفور، هل ما زال لدى عقولنا متسع من المساحة لكي نعرف أن الذين ساهموا في ترسيخ جذور وعد بلفور هم الذين باعوا أرضهم لليهود، فلولا هذه الأرض المباعة لما طبق وعد بلفور الذي جوهره إقامة كيان يهودي على الأرض، وإذا فقدت الأرض لن يقام الكيان، ولكن كان بيننا من ساهم في منح الأرض لليهود لكي يقيموا كيانهم، بدعم وتشيع بريطاني، وأموال صهيونية.
نشرت كتب التاريخ الفلسطيني أسماء عدداً من العائلات العربية التي كانت مقيمة في فلسطين، وامتلكت أراضي بالشراء في العهد العثماني، وكان يقوم على فلاحتها وزراعتها الفلاحون الفلسطينيون، وهذه العائلات التي جاء ذكرها في (كتاب جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، لصالح بويصير، ص493- 510) هي:
1- عائلة سرسق البيروتية (ميشيل سرسق وإخوانه)، باعت مساحة (400 ألف) دونماً، في سهل مرج ابن عامر، وكانت تسكنها 2546 أسرة فلسطينية، طردت من قراها بقوة البوليس البريطاني.
2- عائلة سلام البيروتية باعت (165 ألف) دونم لليهود، وكانت الحكومة العثمانية قد أعطتهم امتياز استصلاح هذه الأراضي حول بحيرة الحولة لاستصلاحها، ثم تمليكها للفلاحين الفلسطينيين بأثمان رمزية، إلا أنهم باعوها لليهود.
3- عائلتا بيهم وسرسق (محمد بيهم، وميشيل سرسق) باعوا امتياز آخر في أراضي منطقة الحولة، وكان قد أُعطي لهم لاستصلاحه وتمليكه للفلاحين الفلسطينيين، ولكنهم باعوه لليهود.
4- أنطون تيان وأخوه ميشيل تيان اللبنانيان، باعا لليهود أرضاً لهم في وادي الحوارث مساحتها (5350) دونماً، واستولى اليهود على جميع أراضي وادي الحوارث البالغة مساحتها (32 ألف) دونم، وطردوا أهله منه بمساعدة الإنجليز، وكان عددهم 3400 عائلة عربية، بدعوى أنهم لم يستطيعوا تقديم وثائق تُثبت ملكيتهم للأراضي التي كانوا يزرعونها منذ مئات السنين.
5- آل قباني البيروتيون باعوا لليهود مساحة (4000) دونم بوادي القباني، واستولى اليهود على أراضي الوادي كله.
6- آل صباغ وآل تويني البيروتيون باعوا لليهود قرى (الهريج، والدار البيضاء، والانشراح، ونهاريا)، وتم طرد الأسر الفلسطينية المقيمة على الأرض بمجرد استلامهم المال من الجمعية الصهيونية.
7- عائلات القوتلي، والجزائري، وآل مرديني، والمملوك السورية باعوا لليهود قسماً كبيراً من أراضي المنشية وصفد.
8- آل يوسف السوريون باعوا لليهود قطع أرض كبيرة لشركة (The Palestinian Land Development Company) اليهودية، بقيمة نصف جنيه فلسطيني للدونم، وبشرط اخلاء جميع الفلاحين المتواجدين على الأراضي. وهي: أراضي قرى البطيحة، وأم الدنانير، والقصيرين، والدكة، وتل ابن أعور، وأم عجاج، وجبيليه، وحسينية، وكنف التحتا، وكفر عارب، وسعدية الرشيد، وسبيل الشقيرية، وزينة، وكنف الفوقا، والمنصورة، والخنسرة، والصلبة، والنوانية، وفخلية. وهذه الأراضي تابعة لسوريا وفلسطين.
9- وقام خير الدين الأحدب (تولى رئاسة وزراء لبنان)، وصفي قدورة، وجوزيف خديج، وميشال سرجي، ومراد دانا، وإلياس الحاج اللبنانيون، باعوا لليهود مساحة كبيرة من الأراضي الفلسطينية المجاورة للحدود اللبنانية.
وقد نشرت جريدة الكرمل عدة أخبار تتعلق ببيع أل سرسق وغيرهم أراضيهم لليهود بداية منذ عام 1920. كتبت تحت عنوان (مسح أراضي سرسق) قالت: "علمنا أن هيئة مهندسين من وكلاء الجمعية الصهيونية ونجيب سرسق خرجت من حيفا إلى مرج ابن عامر لتمسح قرى نجيب سرسق، مما يثبت أن حضرته اتفق على بيع قراياه، إن لم يكن قد باعها. (جريدة الكرمل 12 كانون أول 1920، العدد 679).
بعد سنة انتهي مسح أراضي سرسق، فكتبت الكرمل تقول: "فرغ المهندسون من قبل نجيب سرسق ووكلاء المشتري من قبل اليهود من مسح قرى نجيب سرسق، فبلغت مساحتها ما يزيد عن 66 ألف دونم، وقد جرت المفاوضة بين نجيب سرسق ووكلاء الجمعيات اليهودية على بيعها صفقة واحدة، وتم الاتفاق". (جريدة الكرمل 16 نيسان 1921، العدد 707).
وحول عائلة سرسق كتبت الكرمل تقول: "شاع وملأ الأسماع أن نجيب سرسق صاحب نورس باع أو يساوم على بيع قرية نورس، وإيجار سائر قرى سرسق وهي عبارة عن 11 قرية في مرج بن عامر للصهيونيين.
وحول ظروف بيع القرى في العهد العثماني تقول الصحيفة: الخواجات سرسق وتويني اشتروا قرى واسعة في مرج ابن عامر في عهد الوالي راشد باشا بطريقة لسنا نعلم مقدار مشروعيتها بمبلغ قدره 17 ألف ليرة، وقيمتها الآن تساوي ثلاثة ملايين ليرة. لما أرادت الحكومة (العثمانية) أن تبيع هذه القرى في ذلك الزمن، طلب الأهالي أن يشتروها قرية قرية ليتمكنوا من دفع ثمنها نقداً، ولما كان راشد باشا صديقاً للسراسقةِ، رد طلب الأهالي بحجة أن الحكومة تريد أن تبيعها صفقة واحدة، وباعها إلى أصدقائه آل سرسق، فصبر الأهالي على غلبهم، وتعزوا بأن سرسق يبقيهم فيها مزارعين.
وتسخر الجريدة من وطنية آل سرسق: بالأمس كان يمثل الوطن عضو في الأعيان وعضو في المبعوثان العثمانيين. من السراسقة، وكان كل واحد منهم يتكلم باسم الوطن وأهله". (جريدة الكرمل 16 تشرين الثاني 1920، العدد 673).
وكان من نتائج بيع أراضي سرسق إقامة مستعمرة يهودية، وهذا يؤكد أنه لولا هذه الأراضي التي بيعت للحركة الصهيونية، وما كان ممكننا تنفيذ وعد بلفور. كتبت الكرمل تحت عنوان (مستعمرة بولشفية – إما نحن أو هم) تقول: "في الأراضي المشتراة من نجيب بك سرسق عضو البرلمان العثماني، وابن عضو الأعيان العثماني سابقاً، ومرشح اليوم للنيابة في مجلس لبنان. في الأراضي المشتراة من هذا الوطني؟!، أنشأ مهاجرو اليهود مستعمرة، وتقول جريدة فلسطين في عددها الصادر في 8 آذار تحت عنوان "مستعمرة بولشفية" أن أحد الكتبة الأجانب زار هذه المستعمرة، ورآها مأهولة بعدد من الشبان والشابات، ووجهوا اهتمامهم إلى التسليح وتحصين المستعمرة، وحفر الخنادق وإقامة المتاريس حولها، وقال إنه رأى تحت فرشة كل واحد منهم بندقية، وأن لديهم من الذخيرة ما يكفي، وقالوا له إنه لا يمكن الامتزاج مع العرب، وأنه سيكون بينهم وبين العرب يوم يكون فيه فصل الخطاب، فإما نحن وإما هم". (جريدة الكرمل 11 آذار 1922، العدد 793).
وقد حققت الحركة الصهيونية مرادها من وعد بلفور، وهو شراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتسليحها وتدريب المهاجرين اليهود، ليوم فصل الخطاب (فإما نحن وإما هم)، وساهم العرب في تحقيق فصل الخطاب لصالح الحركة الصهيونية ببيعهم أراضيهم.
وحول بعض العائلات التي باعت أراضيها كتبت الكرمل تقول: "إن نجيب سرسق ابن السيد يوسف سرسق عضو السوريين في مجلس الأعيان العثماني، والذي تكلم باسم معظم مسيحيي سوريا، ونسيب أمراء بيت لطف الله. باع 62 ألف أو 67 ألف دونم للصهيونيين في مرج ابن عامر.
إن بيع أو محاولة بيع الخواجات خوري في حيفا بلدهم الياجور مع ما حوشوا عليها من الاراضي. وكان نصر الله خوري رئيساً للغرفة التجارية، ونائباً لرئاسة الجمعية المسيحية.
إن السادة العمريين من الشام سلالة أعظم رجل لا يزال العرب والتاريخ يفاخرون بسمو مبادئه وعظيم أفعاله الوطنية. قيل لنا أن أبناءه الذين منحتهم الدولة العثمانية شفقة عليهم، وتقديراً لجدهم العظيم أراضي وقف ذرية بجوار يافا، يسعون لبيع أوقافهم، إن لم يكونوا قد باعوها للصهيونيين.
إن السلطان عبد القادر الجزائري الحسني الذي منحته الدولة العثمانية أراضي لقومه المهاجرين، فسعى أولاده لامتلاك جانب من هذه الأراضي، واليوم حفيده الذي يرشح نفسه لعرش سوريا، يسعى على ما بلغنا لبيع ما يملكه من الأراضي الممنوحة شفقة من قبل دولة اسلامية لفقراء مهاجرين إلى الصهيونيين.
وأبناء عمر، والقباني، والذين أغدق عليهم الوطن خيراته يضعون أنفسهم بمنزلة عصى الفؤوس التي تستأصل الأصول وتقطع الفروع. (جريدة الكرمل 4 كانون الثاني 1922، العدد 776).
وكتبت الكرمل تحت عنوان (12 ألف دونم) تقول: "على إثر نزاع حصل بين السادة يوسف الخوري وإخوانه في حيفا، وبين أهالي قرية الطيرة على أرض تبلغ مساحتها 12 ألف دونم، أراد السادة يوسف خوري وإخوانه ضمها إلى مزرعتهم التي يريدون بيعها إلى إحدى الجمعيات الصهيونية. في حين أن الأهالي يدعون أنها من الأراضي المتروكة لمرعى مواشيهم ولاحتطابهما. أرسلت إدارة حيفا المركزية بموافقة حكومة القدس المركزية لجنة فحصت عن هذه الأراضي، واعتبرتها أراضي أميرية، وتركت لمن يدعي ملكية هذه الأراضي حق اثبات ملكيته تجاه المحاكم".
وإذا كان هؤلاء العرب الذين تنعموا بخيرات فلسطين، وكدسوا الأموال من استثماراتهم في أرض فلسطين، قد خانوا عروبتهم ووطنيتهم، وباعوا أراضيهم لليهود لتنفيذ وعد بلفور. نجد من بينهم بعض الاقطاعيين الفلسطينيين الذين باعوا أراضيهم وقرى بأكملها للحركة الصهيونية، وقد نشرت الصحافة العربية قبل عام 1948 أسماء هؤلاء الذين ساهموا في بيع أراضيهم لتنفيذ وعد بلفور، إلا أننا نتحفظ على أسمائهم احتراماً لأبنائهم وأحفادهم، وتبقى الأسماء وما باعوه من قطع أراضي محفوظة لدينا.
كتبت جريدة "مرآة الشرق" في نيسان 1922، تقول: "تهافت بعض الزعماء الذين يملأون الفضاء بصراخهم من الهجرة الصهيونية على بيع أراضيهم لهذا الجمعيات وتسهيل أسباب هجرتهم، ولسان حالهم يقول "نتظاهر بعداوتهم ولكن نحب فلوسهم"، والأنكى من ذلك عدم الوقوف عند هذا الحد بل تجاوزوه للسمسرة بإقناع الغير أيضاً على البيع".
وأمام تزايد بيع الأراضي أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول المنعقد في القدس بتاريخ 26/ كانون ثاني 1935م فتوى تقضي بتحريم بيع الأراضي لليهود، تقول: "إن بائع الأرض لليهود في فلسطين، سواء أكان ذلك مباشرة، أو بالواسطة، أو السمسار، أو المتوسط في هذا البيع والمسهل له، والمساعد عليه بأي شكل مع علمهم بالنتائج المذكورة، كل أولئك ينبغي أن لا يصلى عليهم، ولا يدفنون في مقابر المسلمين ويجب نبذهم، ومقاطعتهم، واحتقار شأنهم، وعدم التودد إليهم، والتقرب منهم". فما كان لهذه الفتوى أن تصدر بعد 17 سنة من الاحتلال البريطاني لولا انتشار ظاهرة بيع الأراضي بين الفلسطينيين. وكان قد سبقها العديد من الفتاوي بشأن هذا الموضوع.
كتب نجيب نصار يقول في عام 1922: ليس وعد بلفور بحد ذاته شيئاً مهماً، بل هو ليس تعويذة يتسلم بها اليهود أرض فلسطين، بمجرد صدور الوعد. نحن إن شئنا طبقنا وعد بلفور، وإن شئنا ألغيناه، نحن نعطي اليهود لفلسطين، وإن لم يكن هناك وعد، ونحن لا نجعل لهم مقاماً، وإن كان لهم وعود كثيرة بلفورية لا وعد واحد، فمن العبث إذن أن نكثر من الصياح والضجيج ما دام في البلاد كثيرون يبيعون بقاعهم ويقدمون مساكنهم، ويؤجرون مخازنهم للصهيونيين. ليس في الأرض قوة تحملنا على تطبيق وعد بلفور إذا كانت الأمة حية، ولكن الأمة الجاهلة عدوة نفسها، ودواؤها منها وفيها".
إن الحقيقة مرة، ولكن لا بد من كشفها، لأن ثمنها غالي/ وطن ضاع، ولكي تكون عبرة لأجيال قادمة، لا تساهم في استكمال بيع البلاد، بحجة الجوع، فالجوع لا يجعلك تفرط في أرضك وعرضك، وسجل التاريخ لا ينسى .. ولا يرحم.
إن الخيانة موجودة في كل المجتمعات منذ فجر التاريخ، وإذا كان بين الفلسطينيين فئة فاسدة، لا ينسحب هذا الأمر على كل الفلسطينيين، بل كان الفلسطينيون الشرفاء يتشددون في مسألة بيع الأراضي، ويعاقبون بالقتل كل من باع أرضه أو عمل سمساراً لبيع الأرض، والشعراء والكتاب والصحفيين تعرضوا بكل قسوة إلى هؤلاء المفرطين في أرضهم، وكشفهم للملأ. تذكر الصحافة العربية قصة سمسار من يافا قتل بالرصاص بينما كان في طريقه إلى منزله ليلاً، وهو مشهور بالسمسرة وبيع الأراضي لليهود، وقد أغلق المسلمون جامع حسن بيك في المنشية لمنع الصلاة عليه، ولم يحضر لتشييعه سوى بعض أقاربه، وقد توقع أهله أن يمنع الناس دفنه في مقابر المسلمين، فنقلوا جثته إلى قرية قلقيلية بلدته الأصلية، وحصلت ممانعة لدفنه في مقابر المسلمين. وقيل إنه دفن في مستعمرة يهودية اسمها "بنيامينا"، وأن قبره قد نبش في الليل وأُلقيت جثته على بعد 20 متراً.