برزت، في عام 2021 م، قواعد اشتباك مغايرة لما كانت في السابق بين حزب الله و"إسرائيل"، نتيجةَ تغيُّر البيئة الاستراتيجية في المنطقة، والتي نقلت الصراع بين "إسرائيل" وحزب الله من صراع ثنائي إلى صراع محاور. فالتحالف الذي نشأ بين "إسرائيل" ودول التطبيع العربي، برعاية أميركية، والذي تكلّل بالتوقيع على اتفاقيات "أبراهام" مع عدد من الدول العربية في المنطقة، من المتوقَّع منه إحداث تغييرات جذرية في المفاهيم، والاستراتيجيات، والتوازنات، والتحالفات العسكرية الأمنية في المنطقة، وخصوصاً مع استعداد تلك الدول المطبّعة لتشكيل تحالف عسكري مع "إسرائيل"، كما حدث مع المغرب. وبالتالي، بات هناك محور صهيو- تطبيعي علني في المنطقة برعاية أميركية.
أدّى تدخُّل حزب الله العميق في القتال في سوريا، ضمن محور المقاومة، وتوثيق علاقاته بروسيا، إلى تعامل الساحتين الإقليمية والدولية مع حزب الله على أنه من القوى الرئيسة المؤثّرة في المنطقة. وبالتالي، تحوّل حزب الله، في الحسابات الأمنية الإسرائيلية، من مجرد تنظيم لبناني إلى عضو رئيس في محور المقاومة، وشريك أساسي في قرارات الحرب والسِّلْم في ذلك المحور، الأمر الذي أدّى إلى ازدياد الصعوبة والتعقيدات لاتخاذ قرار المواجهة العسكرية (الحرب)، بين "إسرائيل" وحزب الله، بحيث أصبحت هناك قواعد اشتباك جديدة تدير الصراع بينهما.
فمن جهة حزب الله، فإنه يسير في مسارين:
الأول، تأكيد قواعد الاشتباك مع العدو الإسرائيلي في الساحة اللبنانية، من خلال تثبيت قاعدة الردع المتبادَل بين الطرفين، والممتدة منذ حرب تموز/يوليو 2006م، مع عدم السماح "لإسرائيل" بتغييرها بالمطلق.
الثاني، السعي للإنهاء التدريجي لسياسة "الصبر الاستراتيجي"، التي انتهجها حزب الله تجاه الاستهداف الإسرائيلي لمواقعه، وعناصره، في سوريا. فمنذ أيلول/سبتمبر 2019م، يحاول حزب الله مدّ "معادلة الردع" إلى الساحة السورية، كما تجلّى ذلك في محاولاته الردّ على جيش الاحتلال الإسرائيلي عند الحدود اللبنانية (27 تموز/يوليو 2020م)، في إثر استشهاد عنصر للحزب، في الهجوم الإسرائيلي بالقرب من دمشق في الـ 20 من تموز/يوليو 2020.
بناءً على ما سبق، صار حزب الله أكثر حساسية تجاه المحافظة على قواعد اللعبة القائمة، الأمر الذي أدى إلى حرصه على الرد على أيّ فعل إسرائيلي يراه كاسراً لقاعدة الردع المتبادَلة، كما جرى ذلك في أكثر من حادثة عام 2021م.
أمّا من الجهة الإسرائيلية:
أولاً، تحوّل حزب الله إلى تهديد رئيس لـ"إسرائيل" لديه قدرة العمل ضدها في كل وقت. لذلك، تسعى "إسرائيل" إلى استثمار الأزمة اللبنانية المُركَّبة والمفتعّلة، والعوامل الضاغطة على حزب الله، في محاولة تحسين قواعد الاشتباك لمصلحتها، شريطة ألاّ يكون هناك رد من حزب الله يُجبرها على الذهاب إلى حرب مفتوحة، تعلم جيداً بتأثيراتها السلبية في الجبهة الداخلية للاحتلال الإسرائيلي. بمعنى آخر: أن تعمل "إسرائيل" على تعويد حزب الله، بالتدريج، على استهداف قوّته العسكرية في لبنان، وخصوصاً مشروع الصواريخ الدقيقة.
ثانياً، أصبح حزب الله جزءاً من استراتيجية "دوائر النار"، المحيطة بـ"إسرائيل"، من محور المقاومة؛ تلك الدوائر التي ترى فيها "إسرائيل" تهديداً لأمنها القومي على طول حدودها، من خلال زيادة تعاظم محور المقاومة وتمركزه في تلك الحدود، والتي يؤدي فيها حزب الله دوراً مركزياً، سواء في لبنان أو حتى في سوريا.
لذا، من الواضح أن قواعد الاشتباك الدائرة بين "إسرائيل" وحزب الله غير مستقرة. فعلى الرغم من اعتقاد الطرفين أن هناك فرصة تتيح لهما تغيير قواعد الاشتباك لمصلحتهما، فإنّ كلاً منهما لا مصلحة له في اندلاع مواجهة عسكرية مفتوحة مع الطرف الآخر، في ظل المعطيات الحالية.
من جهة الاحتلال الإسرائيلي، هناك عوامل كثيرة تمنعه من الذهاب إلى خيار الحرب،
أبرزها:
1. لا توجد ضمانة لـ"إسرائيل"، في حال نشوب الحرب، بأنها ستغيّر الخريطة السياسية الداخلية في لبنان، وبتصفية حزب الله. فمن الواضح أن هذا هدف غير واقعي، كون الحاضنة الشعبية لحزب الله ستبقى مركّباً رئيساً من مركّبات الشعب اللبناني، بالإضافة إلى قدرة إيران على إعادة تأهيل قوة حزب الله العسكرية مرة أخرى. لذا، فإن المواجهة الواسعة لن تغيّر الواقع بصورة دراماتيكية بالنسبة إلى "إسرائيل"، في ظل علامات التساؤل بشأن معقولية الثمن المتوقَّع دفعه إسرائيلياً.
2. الجبهة الداخلية للاحتلال الإسرائيلي غير مهيَّأة للخسائر المتوقَّعة من جراء تلك الحرب، وخصوصاً مع أزمة كورونا، ومحاولة تعافي الاقتصاد الإسرائيلي.
3. زيادة توتُّر علاقة "إسرائيل" بالولايات المتحدة الأميركية، التي تريد تجنُّب صراع كبير آخر في المنطقة، لمصلحة الاستقرار الإقليمي.
4. عدم استكمال جاهزية "إسرائيل" العسكرية، ومنظوماتها الدفاعية ضد الصواريخ، وخصوصاً في ضوء ما كشفته معركة "سيف القدس" من إخفاقات كبيرة في الجاهزية العسكرية الإسرائيلية، على نحو سيجعل "إسرائيل" تفكّر كثيراً قبل خوض أي معركة في الجبهة الشمالية، التي تتوقّع أن تكون أكثر ضراوة.
5. رهان "إسرائيل" على أن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بينها وبين لبنان، من الممكن أن تشكّل فرصة في فتح مسار تفاوضي بين البلدين، مع ما يحمله ذلك من آثار في المواجهة بين "إسرائيل" وحزب الله.
6. لا يمكن فصل قواعد الاشتباك بين حزب الله و"إسرائيل"، عن رؤية الأخيرة لخطورة المشروع النووي الإيراني، وضرورة العمل على إيقافه. وبالتأكيد، لا مصلحة لـ"إسرائيل" في حرف الانتباه الدولي عن مواجهته بحرب مع حزب الله قد تخلط كل أوراق الإقليم وسلّم أولوياته.
من جانب حزب الله:
لا يفضّل حزب الله الذهاب إلى الحرب، في ظل الأزمة اللبنانية الداخلية، والتقدُّم في المفاوضات الأميركية الإيرانية بخصوص المشروع النووي، والذي سيؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية بصورة تلقائية عن إيران، وبالتالي تخفيف أزمات محور المقاومة الاقتصادية والاجتماعية.
فعلى الرغم من أن هناك مخاوف إسرائيلية من أن الأزمات الداخلية اللبنانية تدفع حزب الله إلى زيادة الاحتكاك العسكري بـ"إسرائيل" في سوريا أو لبنان، واحتمال المواجهة معها، من أجل صرف النظر عن تلك الأزمات، فإنّ من الواضح أن حزب الله ما زال حريصاً على عدم خوض معركة مفتوحة مع "إسرائيل"، قد تُخسره مكتسبات تمّ تحصيلها من مراكمة القوة، سياسياً وعسكرياً وإقليمياً، منذ عام 2006م، وخصوصاً في ظل الضغوط الخارجية والداخلية عليه، لكن مع إدراك حزب الله وجوب المحافظة على قواعد الاشتباك المُحافِظة على الردع المتبادَل بينه وبين "إسرائيل"، والتي تخدم فعلياً مصالحه في المدى المنظور.
إن التوترات العسكرية التي حدثت بين حزب الله و"إسرائيل" خلال عام 2021 يمكن قراءتها على أنها محاولات كل طرف فَرْضَ قواعد اشتباك أكثر راحة له. وبالتالي، كانت خطوات الطرفين مدروسة ومنضبطة بحذر شديد، أحدهما تجاه الآخر، على الرغم من أن قواعد الاشتباك الحالية لم تستطع حلّ جذور الأزمة السياسية بينهما، الأمر الذي يجعل كِلا الطرفين في حالة استعداد وتأهب للمواجهة المقبلة. وفي ظل ذلك، من السهل على أي سبب، يتعلّق بالصدفة أو بالخطأ في الحسابات، أن يُشعل الحرب، إلاّ أن خشية الأطراف من مواجهة عسكرية بينهما، تؤدي دوراً مركزياً في استشراف مآلات الصراع بين حزب الله و"إسرائيل" في عام 2022.