لا نريد أن نمر على المعلومات التي تداولتها الصحف بالأمس حول تصرفات الضابط الكبير العامل في الشرطة الإسرائيلية بدون تحليلها وفق علم الجريمة.
يُجسد مضمون التقرير الذي نشرته صحيفة "هآرتس"، الإثنين الموافق 24/1/2022، خلاصة الحقائق العشر التي تُحدد السياق الحقيقي لتصرفات الشرطة ولممثلي السيطرة الرسمية.
قبل أن يتم ربط هذه الحقائق مع مضمون هذا التقرير، أود تلخيص هذه الحقائق (التي تم نشرها في وقفة سابقة "الحقائق العشر التي تُحدد السياق الحقيقي لجرائم القتل بدم بارد"، عرب 48 بتاريخ 07/06/2017).
الحقيقة الأولى: الشرطة الإسرائيلية هي صهيونية في أصلها، وأن وجود الشرطة لم يكن ولن يكن لتوفير خدمات مرتبطة بأمن وسلامة العربي.
الحقيقة الثانية: القيمة التي توجه أفعال الشرطة هي إيديولوجية المرتبطة بأمن اليهودي فقط وفي سياق مجتمع كولونيالي استعماري، والذي تم إنشاؤه على أنقاض عمليات هدم "المجتمع الآخر".
الحقيقة الثالثة: أن محركي هذه الإيديولوجية يحملون أفكارا عنصرية نسمعها من حين لآخر.
الحقيقة الرابعة: تصرفات المستندة على مشاعر "مخاوف التهديد" الوهمية والنابعة من عقائد القادة العبريين.
الحقيقة الخامسة: العلاقة الجدلية بين حامي القانون وخارقه. في أحيان كثيرة يلعب ممثل القانون دور خارقه. التجربة الفلسطينية غنية بأمثلة من خلالها يصبح ممثل القانون مجرما.
الحقيقة السادسة: العلاقة بين المجرم والضحية واضحة. هذه العلاقة قائمة على إيديولوجية مضمونها أن العربي هو دائما المجرم وأن اليهودي هو دائما الضحية، بالتالي يخلق المجتمع الاستعماري سيناريو يبرر روايته التي تخدم إيديولوجيته.
الحقيقة السابعة: إدراك الشرطة أنها المؤسسة التي لا يمكن محاسبتها في حالة أن الضحية هو عربي.
الحقيقة الثامنة: تدخل حد أدنى من تنفيذ القانون في قضايا الجريمة والعنف الاجتماعي، وحد تدخل أقصى في قضايا سياسية/ أمنية.
الحقيقة التاسعة: تحدث عملية النظر للعربي في سياق يتم بإطاره تمييز العرب كمجموعة معادية في سياق الصراع المستمر والمزمن.
الحقيقة العاشرة: جوهر سياسة الدولة الاستعمارية التي تقصد إخفاء كثير من المعلومات وبهدف إرباك وبلبلة وتفسيخ "المجتمع الآخر".
وفق التقرير الذي نُشر بالأمس، والذي يتحدث عن حادثة قتل حدثت قبل السنة والنصف ووفقه "كاميرات ترصد تخطي الضابط الإسرائيلي، جمال حكروش، عن مصاب بحالة خطيرة إثر حادثة جريمة، ولم يقدّم له المساعدة رغم أن المصاب كان لا زال على قيد الحياة أو دقائق قبل إعلان وفاته وفق ما أظهر الشريط المُسجّل". السؤال الذي نسأله هنا: لو حدثت هذه الواقعة مع الإنسان العادي فكيف يتصرف؟ من الطبيعي وبدون التفكير فالإجابة هي بسيطة: إسعاف الجريح وطلب أي مساعدة من أشخاص آخرين. إذا، لماذا لم يتصرف هذا الضابط بالشكل المتوقع تصرفه كبشر؟
لأي حقيقة نتوصل حين نتأمل ما حصل؟ هل التشابه بين مضمون الصور هو صدفي؟ نتساءل حول القيم التي توجه الشرطي، في الصور الثلاث، فهل هي قيم بشرية؟ لماذا يتم منع الآخرين من إسعاف الجريح؟ قد تكون هذه الأسئلة وأجوبتها ضرورية للشخص المُدرك والواعي للسياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطيني.
إن ما يتم وصفه في التقرير المنشور يعكس العقلية المترسخة في شرطة إسرائيل خاصة، وفي الأجهزة القضائية والأمنية عامة.
من الواضح أن علم الجريمة يساهم في تفسير هذه التصرفات، فالشرطي الذي اعتاد على قتل الآخرين بدم بارد يطور تصرفات تصبح ثابتة كجزء من شخصيته، ووفقها يتعامل مع حالات أخرى حتى ولو كان هو ليس فاعلها.
فالنظر للضحية يتم من خلال العقيدة التي اكتسبها في خدمته الشرطية. محاربة الجريمة، وفق هذه العقيدة، لا تنظر للقيمة الأخلاقية والإنسانية وإنما تنظر للمجرم كهدف يلزم القضاء عليه. فما بالك في موقف ضحيته هو عربي، في سياق الصراع السياسي "الأمني"؟
نتوصل للتفكير نفسه من خلال مراجعة دقيقة لأحداث وحيثيات سابقة تعكس كلها حقائق ثابتة.
من الأهمية الإشارة لثلاث تصرفات تواجه الشرطي في التعامل مع ضحية القتل: الامتناع عن إسعاف العربي، والتأخر في الوصول لمسرح الجريمة، وتشويه المعلومات المتوفرة. بالتالي، تُظهر التجارب السابقة في هذا الشأن عدة حقائق التي تعكس كيفية التعامل مع العربي، من الضرورة معرفتها:
الحقيقة الأولى: تعفي الأجهزة السياسية، القضائية والتنفيذية، قوات شرطية أو عسكرية المتواجدة مكان الحادثة من أية مسؤولية.
الحقيقة الثانية: عدم التدخل من منطلق وضعية الخطر المُدرك (حتى لو أن هذا الخطر هو وهمي) على حياة الشرطة المتواجدة.
الحقيقة الثالثة: عدم التدخل من منطلق التعليمات المترسخة والمكتسبة في عملية تشريب ثقافة الشرطة.
الحقيقة الرابعة: تجاهل التناقضات بإفادات المختلفة لأفراد الشرطة ولأشخاص عاديين تواجدوا في مسرح الجريمة.
الحقيقة الخامسة: الاكتفاء بالفحص الأولي ولا داع لفتح تحقيق شامل.
الحقيقة السادسة: قد يدعي البعض أن لا داع للتحقيق فقد مر على الحادثة فترة طويلة ومما يُصعّب من إجراء التحقيق.
الحقيقة السابعة: القرارات التي ستُتخذ مرتبطة بحياة المواطنين الفلسطينيين في البلاد.
الحقيقة الثامنة: منظومة عسكرية التي تعكس تعامل الدولة مع العرب كأعداء.
الحقيقة التاسعة: الأمر لا يعكس خلل هامشيّ قابل للتعديل، إنما هو يُجسد سياسة التستّر على رجال الشرطة وإحباط الشكاوى وتمويه المعلومات عن الجمهور.
الحقيقة العاشرة والأخيرة الملخصة: يشاهد ممثل "تطبيق القانون" الموقف، ينسحب من مسرح الجريمة، يترك الضحية تنزف وثم يُشوه المعلومات.
وكما تم ذكره في تقرير جريدة هآرتس أن الضابط الكبير (صاحب الشأن) لم يُستدع للإدلاء بشهادته، القاتل ينتظر صدور الحكم عليه وأن هذا الضابط هو شاهد من قبل النيابة في الملف.. هذه المعلومات والشهادات الموثقة في التقرير كلها تعكس مصير صاحب الشأن في ضوء الحقائق العشرين التي تُفسر تصرفاته.
كاتب المقال هو سهيل حسنين
بروفيسور مختص بالعدالة الجنائية وعلم الجريمة