صنعت إسرائيل سرديّة قويّة حول ما تسمّيه «حرب الاستقلال»، مخفية حقيقة ما قامت به العصابات الصهيونيّة من تطهير عرقيّ في فلسطين، من أجل تمهيد الطريق لخلق الكيان الاستعماريّ. بالنسبة إلى إسرائيل، فإنّ فظائع النكبة يجب أن تبقى مخفيّة في أراشيفها، كما أشار تقرير أعدّته «هآرتس» عام 2019، بعنوان «دفن النكبة: كيف تعمل إسرائيل بشكل ممنهج على إخفاء أدلّة طرد العرب عام 1948».
بناء على بحث أجراه مركز «عكيفوت لدراسات الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ»؛ كشف تقرير «هآرتس» الدور الّذي أدّته وزارة الدفاع الإسرائيليّة في الجهد المستمرّ والممنهج للإبقاء على كلّ الوثائق المتعلّقة بالنكبة سرّيًّا، وهي مهمّة معهودة إلى «مالماب»؛ وحدة الأمن في الوزارة.
في التقرير، أخبر رئيس وحدة «مالماب» السابق، يهييل هورف، «هآرتس»، بأنّ هدف الوزارة التشكيك في الدراسات المتعلّقة بالنكبة. شرح هورف لـ «هآرتس» "إنّ ادّعاءً يقدّمه باحث مدعومًا بالوثائق الأصليّة مختلف عن ادّعاء لا يمكن إثباته أو نفيه".
لتقرير «هآرتس» عام 2019 أهمّيّة كبرى؛ إذ إنّه يكشف انشغال إسرائيل باحتمال وجود وثائق متاحة متبقّية للبحث؛ وهو ما يؤكّد أنّ المسؤولين الصهاينة، ولاحقًا الوزراء الإسرائيليّين، كانت لديهم معرفة تامّة بمجازر النكبة، وبعد سنتين، أُثْبِتَت صحّة هذا الافتراض الشائع.
في التقرير الّذي صدر بداية شهر كانون الأوّل (ديسمبر) 2021 أظهر «مركز عكيفوت» و«هآرتس» مدى معرفة القادة الإسرائيليّين بفظائع النكبة. يبدأ التقرير الأخير بشكل صادم، لقد كانت مذابح العصابات الصهيونيّة فظيعة إلى حدّ أنّ الوزير في الحكومة الإسرائيليّة حاييم - موشيه شابيرا أعلن أنّ "كلّ أسس إسرائيل الأخلاقيّة تضعضعت". وإذا ما وضعنا جانبًا التناقض في افتراض أنّ من الممكن أن نجد أيّ أسس أخلاقيّة في الاستعمار، فإنّ أوّل وزراء إسرائيليّين تنبّؤوا بحالة الوعي الإسرائيليّ والتلقين الّذي سيدفع الإسرائيليّين إلى تصديق السرديّة الاستعماريّة وتبنّيها.
إنّ تقرير «هآرتس» حول الموضوع يكشف التفاصيل والمعلومات الّتي كانت متاحة للوزراء الإسرائيليّين. رسائل جنود، مذكّرات غير منشورة، ملاحظات اجتماعات حكوميّة من عام 1948، جعلت باستطاعة الباحثين أن يملؤوا ثقوبًا كانت موجودة في تاريخ النكبة. عمليّتان محدّدتان نوقشتا بشكل واسع – «عمليّة يوآف» و«عمليّة حيرام» – مملوءتان بمذابح أراقت دم الفلسطينيّين الّذين لم يملكوا خيارًا سوى الفرار ضدّ إرادتهم.
التفاصيل الّتي ظهرت، كما يوضّح تقرير «هآرتس»، تكشف وحشيّة عنف العصابات الصهيونيّة.
لا تزال مذبحة دير ياسين الأكثر شهرة بين مذابح النكبة، لكنّ التقرير الجديد يرينا أنّ دير ياسين كانت واحدة من بين مذابح كثيرة بذات الوحشيّة، مذابح تفضّل إسرائيل إبقاءها بعيدة عن عيون الجماهير.
في قرية الرينة، قرب الناصرة، قُتِلَ 14 فلسطينيًّا "في سبيل سرقة ممتلكاتهم". في قرية البرج، قتلت العصابات الصهيونيّة بالقنابل والأسلحة الناريّة ثلاثة من الفلسطينيّين من كبار السنّ، الّذين ظلّوا في البلدة بعد أن طهّرتها العصابات الصهيونيّة عرقيًّا، وأشعلت النار في جثثهم. رجل رابع طاعن في السنّ، كان قد أُمِرَ بالعودة إلى القرية، قُتِلَ بأربع رصاصات حين رفض تصديق قصّة الجنود حول الفلسطينيّين القتلى. في ميرون، أُمِرَ الأسرى، بمَنْ فيهم نساء وأطفال، بأن يحفروا حفرة كبيرة، خدمت لاحقًا قبرًا جماعيًّا لهم.
اغتصب رجال من عصابة «إرغون» فتاة مراهقة "بعد ذلك طُعِنَتْ بسكاكين البنادق، وأُدْخِلَتْ عصا خشبيّة في جسدها". تستمرّ شهادة شميول ميكونيس من «الحزب الشيوعيّ». في مذبحة الحولة، قتل لواء كارميلي 33 فلسطينيًّا في يومين، ومَنْ ظهرت عليه إشارات الحياة بعد ذلك أُطْلِقَتِ النار عليه مجدّدًا وقُتِل. شميول لاحس، القائد الوحيد الّذي حوكِمَ على جرائم النكبة، والّذي قضى سنة واحدة في السجن من أصل حكم طوله سبع سنين، شهد بأنّ قائد الوحدة أخبره أن "لا داعي لإشغال رجال المخابرات بالأسرى".
من الوسائل الّتي اسْتُعْمِلَتْ مرارًا، بما في ذلك في عمليّتَي «يوآف» و«حيرام»، جُمِعَ الأسرى الفلسطينيّون في مبنًى ثمّ فُجِّرَ على مَنْ فيه.
متحدّثين عن مذبحة الدوايمة، شهد جنود بأنّ "الأطفال قُتِلوا بسحق جماجمهم بالعصيّ. لم يبقَ بيت دون قتلى".
مع أنّ أجزاء كبيرة من الوثائق المكشوفة أخفاها الأرشيف الإسرائيليّ؛ حتّى لا تذكر جرائم الحرب بشكل مباشر، إلّا أنّ ذنب إسرائيل واضح دون أدنى خيال من الشكّ. "أن نذهب إلى هذا الحدّ ممنوع حتّى في أوقات الحرب"، قال موشي - حاييم شابيرو وزير الهجرة والصحّة. وزراء آخرون أكّدوا معرفتهم بأوامر التطهير العرقيّ.
تثير الكشوفات الجديدة ملاحظات عدّة. عبّر عدد من الوزراء الّذين عرفوا بالفظاعات عن شعورهم بالخزي، وبعضهم عن معاناتهم في النوم. أهارون زيسلينج، وزير الزراعة، قال: "شعرت بأنّ شيئًا ما كان يحدث ويؤثّر في روحي، في روح وطني، وفي روحنا جميعًا هنا... إنّني أعرف أنّ من الممكن أن يكون لهذا تبعات في كلّ مناحي الحياة. إنّ تجاوزاتنا تولّد تجاوزات أخرى، وستصبح التجاوزات طبيعة هؤلاء الناس".
كيف توقّع هؤلاء الوزراء أنّ المشروع الصهيونيّ، الّذي استخدم الأساس الكاذب بأنّ فلسطين أرض خالية، لن يرتكب جرائم حرب في فلسطين؟ إنّ استبدال السكّان الأصليّين هو في حدّ ذاته فعل عنيف، فكيف نَصِفُهُ مرافقًا بكلّ هذه المذابح الّتي تظهر الآن في الأرشيف الإسرائيليّ؟
ما ركّز الوزراء الإسرائيليّون عليه من أجل تبرير الاحتلال الاستعماريّ لفلسطين هو معاملة جرائم الحرب كأمر زائد. بفصل الفظائع الاستعماريّة عن الاستعمار، عمل الوزراء الإسرائيليّون على غسل حضورهم في فلسطين، وصناعة سرديّة تتّهم أجزاء معيّنة فقط من الجيش بالتصرّف بشكل غير أخلاقيّ، وتستثني الدولة من الضلوع في ذلك. صرّح وزير المواصلات الإسرائيليّ ديفد ريميز: "لقد انزلقنا في منزلق فظيع – صحيح أنّه ليس الجيش كلّه – لكن، بوجود أفعال كهذه، خاصّة إذا ما تكرّرت في أماكن عدّة، فإنّها - دون شكّ - فظيعة إلى حدّ بائس". وكما سيثبته «جيش الدفاع الإسرائيليّ»، فإنّ العنف متأصّل في أساسات السياسة الإسرائيليّة.
لقد ضُمِّنَت عصابتا «هاغانا» و«بالماح»، اللتان شاركتا في النكبة، في الجيش الإسرائيليّ. "إنّ العنف العسكريّ عنصر بديهيّ في أيّ مشروع استعماريّ استيطانيّ، ودونه، فإنّ هكذا مشاريع مستحيلة، يكتب حاييم بريشيت زابنر في كتابه «جيش لا مثيل له: كيف أسّس جيش الدفاع الإسرائيليّ أمّة».
مع هكذا بدايات وحشيّة، وبما أنّ الجيش الإسرائيليّ متغلغل في المجتمع الإسرائيليّ، فإنّ تغيير الوعي الإسرائيليّ مهمّة شاقّة لا يمكن أن تكون إلّا من الداخل. إنّ إتاحة نشر الوثائق المتعلّقة بالنكبة، الّتي نشرت «هآرتس» بعضها، يشكّل تحدّيًا مباشرًا للسرديّة الإسرائيليّة.
تكشف الوثائق عن سرديّة إسرائيليّة تعرف جيّدًا جرائم الحرب المرتكبة، حقيقة حذفتها الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة من الرواية الرسميّة حول قيام إسرائيل. من غير المفاجئ أنّ للجيش الإسرائيليّ حضورًا مؤثّرًا في إسرائيل، حضورًا مشبعًا بادّعاءات أخلاقيّة تحاول تبرير وجوده عن طريق ‘الأخلاق‘. إذا ما أقرّ الجيش الإسرائيليّ باتّصال جذوره مع الفظائع الّتي ارتكبتها العصابات، الّتي تكوّن منها خلال النكبة، فإنّ السرديّة الإسرائيليّة ستنهار سريعًا.
في بداية عام 2021، شاهد العالم ردّ فعل إسرائيل على تصنيف منظّمة «بِتْسيلِم» للاحتلال الإسرائيليّ بصفته نظام أبارتهايد، والردود الانتقاميّة الّتي أطلقتها تجاه المنظّمة الإنسانيّة غير الحكوميّة. نبع غضب إسرائيل من حقيقة واحدة بسيطة: كان تصنيف «بِتْسيلِم»» لها مدعّمًا بأدلّة وإثباتات.
بالنسبة إلى كيان يعرف أنّ أصوله مبنيّة على كذبة يمكن إثبات كذبها، فإنّ كشف الوثائق المتعلّقة بالنكبة قد يكون له قدرة كبيرة على تحدّي الحكومة الإسرائيليّة، وأن يجبر المجتمع المستعمِر على صحوة عنيفة حول تاريخه. إنّ حماية إسرائيل للعقليّة الاستعماريّة حماية هشّة إذا ما كانت تحتاج حتّى الآن إلى الإبقاء على الوثائق التاريخيّة مخفيّة في خزائن مقفلة.
على مدى عقود، كانت مذابح مثل دير ياسين تُسْتَخْدَم أدلّة على التطهير العرقيّ وعنف العصابات الصهيونيّة، مبعدة الانتباه عن مذابح أخرى. أن نحصر صدمة النكبة الفلسطينيّة في مذبحة دير ياسين، على سبيل المثال، قد يقلّل من أهمّيّة كشف فظائع النكبة الأخرى ونشرها، وهي جزء من الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة.
يدعم كشف الوثائق السرديّة الشفهيّة الفلسطينيّة حول النكبة، الّتي شكّلت عاملًا موحّدًا للفلسطينيّين الّذين شُتِّتوا حول العالم نتيجة التطهير العرقيّ. التاريخ الشفهيّ هو الحصن الّذي يحمي ويشكّل الذاكرة الفلسطينيّة الجمعيّة. كما يكتب إيلان بابيه باقتضاب "إنّ تأريخ النكبة، سواء من قِبَل فلسطينيّين أو غيرهم، لا يُشَرْعَن بوجود وثائق في الأرشيف الإسرائيليّ أو لا، لكنّ قيمة هذه الوثائق تكمن في كشف أنّ طبيعة المشروع الصهيونيّ عنيفة بشكل بنيويّ، وليس بشكل عرضيّ، وفي تكذيب الخطاب الإسرائيليّ الرسميّ حول نشأة الدولة". هذا هو الهدف الّذي يخدمه كشف الوثائق.
لا تترك السرديّة الحكوميّة الإسرائيليّة أيّ مجال للنقاش حول النكبة. الحقيقة هي أنّه إذا ما رفعت إسرائيل السرّيّة عن أراشيفها وكشفت وحشيّتها، فلا داعي لأيّ نقاش من الأساس؛ ستتكلّم الحقائق عن ذاتها.