يحتدم، حالياً، نقاشٌ وجدلٌ بين المتعاطفين مع تركيا ومحبّي رئيسها، رجب طيب أردوغان، بسبب مساعيه لتخفيض منسوب التوتر في العلاقات مع إسرائيل وإعادة الدفء إليها. أساس ذلك النقاش والجدل يتمحور حول ما يراه بعضهم ازدواجية في المعايير، متمثلة في تردّد كثيرين في انتقاد ما تقوم به أنقرة، ومحاولة إيجاد أعذار لها. حسب هؤلاء، من يدعون إلى "تفهم" الحسابات والمصالح التركية، والتحدّيات التي تواجهها، لم يوظفوا المعيار ذاته عندما جرّدوا حملاتٍ لاذعة ضد دول عربية أقدمت على التطبيع مع إسرائيل، وتحديداً في حالات الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، بل وصل الأمر إلى اتهامهم بالخيانة. في المقابل، ثمَّة من يرى أن أردوغان دُفع إلى التهدئة مع إسرائيل، لحماية المصالح العليا لبلاده في شرق البحر المتوسط، ومن أجل تقليل أعداء تركيا، خصوصاً في ظل المؤامرات الغربية والروسية على حكومته، والتي لم تتردّد أنظمة عربية كثيرة في الانخراط فيها، بل وتصدّرها. ومن ثمَّ، لا يمكن مقارنته بهؤلاء الذين سارعوا إلى إسرائيل متواطئين معها، حماية لمصالح أنظمتهم، لا مصالح شعوبهم ودولهم.
لا يهدف هذا المقال إلى الغوص كثيراً في الحسابات التركية من محاولة التقارب مجدّداً مع إسرائيل، والتي تمضي في مسارٍ موازٍ لمساعٍ أخرى تقوم بها أنقرة لتطبيع العلاقات مع الإمارات ومصر والسعودية، وتثير جدلاً، كذلك، لا يقلّ عن الجاري في الموضوع الإسرائيلي. ما يهم المقال محاولة تقديم مساهمة في النقاش الجاري بشأن ما إذا كان من المقبول والمُسَوَّغِ أخلاقياً اللجوء إلى معايير مزدوجة في حال اختلاف السياقات والأطراف الفاعلة؟ هذا موضوع شائك، والخوض فيه ليس سهلاً، فإن قلنا إن المعيار ينبغي أن يكون واحدة، وإن اختلفت المعطيات والجهات المنخرطة فيها وحساباتها ونواياها ضمن نسق تعاطيها العام، حينها قد تكون نتائجنا منسجمة أيديولوجياً وأخلاقياً، ولكنها متشنّجة سياسياً وعملياً. وإن قلنا إن تطبيق المعيار الواحد قابل للتفاوت، أو إن المعايير قابلة للتعدّد، حسب اختلاف المعطيات وهوية الأطراف المعنية، حينها نغامر بأن نصنّف ذرائعيين وانتهازيين ولا أخلاقيين.
شخصياً، أعتقد أن نقطة الانطلاق ينبغي أن تكون من ضرورة التمييز بين الموضوعية والحياد. يرى علماء اجتماع أن الموضوعية تختزن قيمة أو قيماً تحكم مسار تعاطينا مع المسائل والحكم عليها، في حين أن الحيادية تركّز أكثر على التوازن في الطرح وتقديم القضايا متخفّفة من القيم. للتوضيح، الحديث هنا محصورٌ في السياقات الإنسانية والاجتماعية، لا العلمية الطبيعية البحتة. مثلاً، في السياق الديني، تقتضي الموضوعية اختيار جانب الإيمان والخير، والانحياز إلى ما يقدّمه الدين أنه حق. هذا انحياز قيميٌّ. أما إذا وظّفنا معيار الحياد، فحينها نكون أمام وضع مجرّد من القيمة، ويترتب على ذلك المساواة بين الإيمان والكفر، والخير والشر. وفي السياق الاجتماعي، تقتضي الموضوعية أن نختار جانب المظلومين والمستضعفين وننصرهم، في حين يقتضي الحياد منا أن نسمح لكل طرفٍ بعرض قضيته، على قدم المساواة، من دون حكمٍ عليها، وبهذا نكون مكنَّا المعتدين والمستبدّين من الاستمرار في جرائمهم والتملّص من تحمل تبعاتها. هذا تغييب لِلْكُنْهِ القِيميِّ. وإذا أخذنا الأمر في السياق الإعلامي، تتطلب الموضوعية البحث في المعطيات، وتقليب الأدلة، للوصول إلى الحقيقة، وليس الظهور بمظهر المحايد الذي لا موقف له، وبالتالي المساهمة في تضليل الناس.
إذاً، لا مشكلة في الانطلاق في معالجة الأمور والحكم على الأشياء من أرضية الحياد، من دون أفكار مسبقة، ولكن مع تقدّم التحرّي والبحث وجمع الدلائل وتقليب الحيثيات، فإن الموضوعية تقتضي أن ننحاز إلى الحقيقة مجرّدة على أساس قِيميٍّ. غير ذلك، يصبح حيادنا تواطؤاً مع الخلل أو الخطأ، وخداعاً للذات وللآخرين.
حتى لا نستطرد أكثر، وعودة إلى موضوع هذا المقال، في المساواة الصارمة بين تركيا، تحت حكم حزب العدالة والتنمية، وأنظمة عربية وإسلامية معينة، تجنٍّ كبير وظلم للحقيقة. مرة أخرى، لا أنكر هنا أن ثمَّة انحيازاً قيميّاً، فالموضوعية تقتضي ذلك. وقفت تركيا مع الشعب الفلسطيني، بشكل واضح وعلنيٍّ، منذ عام 2009، منذ وبخ أردوغان الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز، في مؤتمر دافوس الاقتصادي، واصفاً إياه بقاتل الأطفال، أشهراً بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة حينها. ثمَّ جاء سماح تركيا بإرسال سفن إلى قطاع غزة في محاولة لكسر الحصار عليه، وما تبع ذلك من هجوم إسرائيلي على سفينة مافي مرمرة، واستشهاد عشرة مواطنين أتراك. منذ ذلك الحين، والعلاقات التركية – الإسرائيلية في حالة انهيار، وصلت إلى حد طرد السفير الإسرائيلي في أنقرة، عام 2018، وهو ما ردّت عليه تل أبيب بالمثل، بعد أن ارتكبت مجزرة بحق مدنيين فلسطينيين كانوا يتظاهرون عند حدود قطاع غزة احتجاجاً على الحصار. أيضاً، وقفت تركيا مع الثورات العربية ودعمتها، واستضافت ملايين اللاجئين السوريين على أراضيها، وآلاف اللاجئين العرب الفارّين من بطش أنظمتهم، بعد الردّة على ثورات الحرية والانعتاق، وهو ما وتر علاقات أنقرة بمحيطها العربي الرسمي.
الحديث هنا يطول. إذ ترتب على كل ما سبق أن تركيا وجدت نفسها في خضم محيط معاد لها على مستوى الأنظمة، سواء في إيران، أم في عواصم عربية كثيرة، وكذلك في أوروبا، وأيضاً من الولايات المتحدة وروسيا. لم تبق سياسات أردوغان، التي صفّق لها أغلبنا، على حلفاء كثيرين لبلاده، وتزايدت الضغوط الاقتصادية عليها، ومحاولات حصارها، ما تسبب في تصاعد النقمة بين الأتراك على حزب العدالة والتنمية، وخسر بسببها بلدياتٍ كثيرة، أهمها إسطنبول وأنقرة. ولم تكتف أنظمة عربية في التورّط في محاولة الانقلاب العسكري عام 2016، بل رأينا مصر تتنازل عن كثير من حقوقها في مياه المتوسط وثرواته لصالح إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية نكاية في تركيا ورغبة في جعلها حبيسة سواحلها. ولم تدّخر كل من الإمارات والسعودية جهداً في محاولة زعزعة الأمن القومي لتركيا واستقرارها. هنا أدرك أردوغان أن مواجهة كل هذه التحديات تقتضي تقليل أعداء بلاده. إنها تلك الموازنة المُرَّةِ بين المبادئ والمصالح. إنها السياسة التي تمثل درجة احتراق الإيديولوجيا، أو على الأقل تَمَيُّعِها.
كل ما سبق لا يعني أن لا ندين محاولات أردوغان التقارب مع إسرائيل. على العكس، بل ينبغي أن نقوم بذلك بكل قوة، فضرورات أنقرة ليست ضروراتنا. وأردوغان ليس نبياً معصوماً، بل هو رجل دولة له حسناته وسيئاته. كثيراً ما يطالبنا بعضهم بأن ندين سياسات ومواقف معينة لا نتفق معها، صادرة عن تركيا وقطر تحديداً، وهذا مفهوم، ولكن أن نساوي بينهما وبين من ديدنه الإساءة والشر، فهذا نوع من السفه والابتزاز الرخيص. ليس من أراد الحق فأخطأه كمن أراد الباطل فأصابه. هذه هي الموضوعية القيميَةِ كما أفهمها. سندين ونختلف حين يتطلب الموقف ذلك، ولكننا لن نسقط في تواطؤٍ ذميمٍ عبر التعامل مع من جلُّ أمره وعمله خير، بالطريقة ذاتها التي نتعامل فيها مع من جلُّ عمله وأمره شرّ.