رغم كل محاولات الحكومات الإسرائيلية المتتابعة لتغييب القضية الفلسطينية، وتهميش تأثيرها في الأمن القومي الإسرائيلي، وخاصة في فترة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو، صاحب (عقيدة اللا حل) للقضية الفلسطينية، ما زال الواقع على الأرض يؤكد ما ذهب إليه تقرير معهد الأمن القومي الإسرائيلي الاستراتيجي لعام 2022م، عن أن (القضية الفلسطينية هي التحدّي الرئيسي للأمن القومي الإسرائيلي)، وخاصة مع الحراك الشعبي المقاوم، الذي تشهده الضفة الغربية ما بعد معركة "سيف القدس"، التي وحّدت الجبهات الفلسطينية في جبهة مقاومة واحدة ضد الاحتلال، بما فيها الضفة الغربية.
تسعى الممارسات الإسرائيلية من خلال سياساتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى كيّ وعي الجماهير في الضفة الغربية وإبعادها عن المقاومة، فكرة وسلوكاً، ومحاولة تأهيل الفلسطينيين في الضفة الغربية للقبول بفكرة "السلام الاقتصادي"، التي تنزع الفلسطيني من قضيته وتحوّله إلى مجرد كائن حيّ مستهلك باحث عن متطلباته الحياتية، بعيداً عن أيّ معانٍ وطنية جماعية كشعب يبحث عن الاستقلال والحرية، وبالتالي تحسم الحركة الصهيونية المعركة في الضفة الغربية، التي ستتحول إلى "يهودا والسامرة"، بحسب الأباطيل التلمودية، بما يحمله ذلك من حماية "إسرائيل" لخاصرتها الأمنية الرخوة المتمثلة في الضفة الغربية.
ورغم كل تلك الممارسات الإسرائيلية، باتت هناك مؤشرات حقيقية ملموسة من قبل الإسرائيلي على أن الضفة الغربية على فوهة بركان ممكن انفجاره في كل وقت، في وجه الاستيطان التلمودي، وحواجز القتل الإسرائيلية، ومحاولات ضم أراضي الأغوار، وعربدة المستوطنين، وغيرها من الممارسات الاحتلالية الطاردة لكل ما هو فلسطيني في الضفة الغربية.
تحاول "إسرائيل" وأجهزتها الأمنية إحكام قبضتها العسكرية والأمنية على الضفة الغربية من خلال ثلاث ركائز أساسية:
الأولى، قوة سيطرة جيش الاحتلال الاسرائيلي على الضفة الغربية، وتقسيمها إلى مكوّنات جغرافية من السهل السيطرة عليها والتحكم فيها إسرائيلياً.
الثانية، تغلغل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية داخل المجتمع الفلسطيني في الضفة، من خلال منظومات أمنية فاعلة على أرض الميدان، من خلال العنصر البشري، ومن خلال منظومات أمنية تكنولوجية متعددة، تراقب وتتابع تحركات الفلسطيني في العالم الافتراضي، إلى درجة أنها تعتقل الشاب الفلسطيني لمجرّد "بوست" كتبه على مواقع التواصل الاجتماعي.
الثالثة، منظومة التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، والتي من خلالها تحاول "إسرائيل" التخفيف من أعبائها الأمنية، تحت وهم أن مصلحة السلطة الفلسطينية الأمنية تتساوق مع أمن الإسرائيلي واستقراره في الضفة الغربية.
رغم كل محاولات السيطرة الإسرائيلية الأمنية على الضفة الغربية، يدرك المتابع لما يجري في الضفة الغربية، ولا سيّما مع ازدياد حملات اعتقالات "الجيش" الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، أن حجم الأزمة الإسرائيلية وخوفها المتنامي من تحول الضفة الغربية مرة أخرى إلى جبهة مواجهة مفتوحة ضد الاحتلال كبيران جداً، فالاعتقالات باتت تمتد جغرافياً من شمال الضفة إلى جنوبها، ولم تعد سياسياً مقتصرة على انتماء تنظيمي معيّن، بل باتت الاعتقالات الإسرائيلية تستهدف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني كافة تقريباً، كمؤشر حقيقي على أن هناك حالة جماهيرية مقاومة تتشكّل داخل الضفة الغربية، من الممكن أن تتصاعد على ضوء ازدياد عمليات القمع الإسرائيلية بحقّ الأسرى الفلسطينيين، حيث بدأ الأسرى معركة التمرد والعصيان ورفض قوانين السجن، وصولاً إلى احتمال الإعلان عن الإضراب عن الطعام خلال الشهر المقبل، ضد مصلحة إدارة السجون الإسرائيلية، في سبيل مواجهة التغوّل الإسرائيلي على إنجازات الحركة الأسيرة الفلسطينية وإرثها بعد عملية الهروب من سجن جلبوع.
ومن الجدير بالذكر أنّ عدد الأسرى الفلسطينيين الإجمالي في سجون الاحتلال نحو 4500، بينهم 34 أسيرة، ونحو 180 طفلاً، أكثر من تسعين في المئة منهم من سكان الضفة الغربية، الأمر الذي يجعل من قضية الأسرى وقوداً إضافياً لحالة الغليان الأمني في مناطق الضفة الغربية، وعاملاً إضافياً لزيادة أسباب المواجهة مع الاحتلال ومستوطنيه.
يواكب حالة المقاومة الشعبية في الضفة الغربية ازدياد في الفعل المقاوم العسكري ضد الاحتلال ومستوطنيه، وهذا ما عبّر عنه تنامي عمليات إطلاق النار على الحواجز الإسرائيلية ونقاط حراسة المستوطنات الصهيونية، إضافة إلى بروز ظاهرة إطلاق النار على قوات الاحتلال وآلياته المقتحمة للمدن والقرى الفلسطينية، الأمر الذي بات يؤثر في حرية عمل "الجيش" الإسرائيلي وسهولته في مناطق الضفة الغربية، وخاصة في شمالها، حيث سجّل مخيم جنين معادلة جديدة عبّر عنها الصحافي الإسرائيلي في جريدة "يديعوت أحرونوت"، "يوسي يهوشاع"، بقوله: (إن جميع عمليات جيش الاحتلال في المخيم أصبحت تنتهي بالاحتكاك الشديد وإطلاق النار الحيّ)، الأمر الذي لم يعتَدْه "الجيش" الإسرائيلي ووحداته الخاصة في مناطق الضفة، منذ انتهاء انتفاضة الأقصى عام 2005م، أضف إلى ذلك أن إعادة بناء التشكيلات العسكرية المنظمة، ولا سيّما في مدينتي جنين ونابلس، وانتشار ظاهرة المطاردين المسلحين في المخيمات والمدن في الضفة الغربية، في ظل عدم قدرة أجهزة التنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية على مواجهة تلك الظاهرة، لكونها تمتلك الشرعية الوطنية من خلال الالتفاف الشعبي حولها، والأهم أن مواجهتها من قبل أجهزة السلطة يُفقد الأخيرة شرعيتها المهتزّة أساساً داخل الشارع الفلسطيني.
هذان الأمران يُجبران "إسرائيل" على التدخل العسكري والأمني المباشر من خلال تعزيز قواتها في أرجاء الضفة الغربية، وما يصاحب ذلك من قيامها بأعمال عسكرية في مناطق تعتبر تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، كما حدث في عملية اغتيال الشهداء الثلاثة في مدينة نابلس الشهر الماضي، وبالتالي يتم إضعاف السلطة الفلسطينية، ومنظومة التنسيق الأمني الذي يعتبر إحدى الركائز الأساسية في عملية ضبط الأمن الإسرائيلي في الضفة الغربية، فضلاً عن تولّد تعارض بين الحاجة إلى حفظ الأمن الإسرائيلي في الضفة، وأهمية تعزيز دور السلطة الفلسطينية الذي يخدم التوجهات الإسرائيلية السياسية على المستوى الاستراتيجي، للابتعاد عن أزمة الدولة الواحدة، التي تؤرّق "العقلانيين" في "إسرائيل".