"إن دور المجاهدين اليوم أن يمنعوا استقرار إسرائيل بأي ثمن، لأن استقرارها يعني زلزلة المنطقة" بهذه الكلمات القليلة عبر الشهيد المعلم د. فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين عن الدور العظيم المأمول من قوى المقاومة في المنطقة وما تقوم به حركته الواعدة التي تبلورت خلال مرحلة شهدت تحولات كبيرة على المستويين الإقليمي والمحلي، فعلى المستوى الإقليمي كان حدثين، الأول توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٨ ، والثاني انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ وكان لكل منهما إنعكاساته على القضية الفلسطينية، وأما على الصعيد المحلي فكان تحديين، الأول تراجع الدور الوطني متأثراً بالواقعية السياسية التي بدأت رحاها تدور عام ١٩٧٤ والثاني غياب الفعل الإسلامي آنذاك الذي كان يؤجل مسألة الجهاد في فلسطين.
تجاوزت حركة الجهاد مسألة ضعف الإمكانيات وشحها ولم تترك أفكار مشروعها الرسالي العظيم المنادي بتوجيه بوصلة الأمة نحو فلسطين واعتبارها القضية المركزية لها فريسة لهذا الضعف، فتقدم أبناءها متسلحين بالوعي والإيمان نحو كل ما من شأنه تشكيل ارهاصات ذلك من خلال ضرب أمن العدو ومنع استقراره، فكانت ثورة السكاكين والهروب الكبير من سجن غزة و عمليات جهادية أخرى كانت دُرتها عملية السادس من تشرين في الشجاعية، حتى تحول شعارهم الخالد "تقديم الواجب فوق الإمكان" إلى نهج مقدس عند مجاهدي الحركة في كل ساحات تواجدهم، ولعل من أهم منجزات تلك المرحلة تثوير الجماهير التي اعتبرتها حركة الجهاد أداة التغيير و اندلاع انتفاضة ١٩٨٧ وإلتحاق الحركة الإسلامية التقليدية بالانتفاضة والمقاومة.
أدرك العدو مبكراً خطورة الدور الذي تمارسه حركة الجهاد فقام بعدة إجراءات انتقامية لإضعاف الحركة كان أهمها إبعاد مؤسسها د. فتحي الشقاقي إلى خارج فلسطين عام ١٩٨٨ بعدما فشل في كسر قدرته على قيادة وتوجيه الحركة من داخل السجون خلال فترة إعتقاله، لكن محنة الإبعاد سرعان ما تحولت إلى منحة عندما قام د. الشقاقي بنسج وترسيخ العلاقات مع قوى المقاومة في المنطقة بما يخدم ويعزز مشروع مواجهة العدو الإسرائيلى، الأمر الذي تطور و ما زال بشكل تستفيد منه المقاومة في فلسطين حتى الآن.
بعد توقيع اتفاقية أوسلو وقفت الجهاد بشكل واضح في وجه الإرادة الدولية رافضة الإنخراط في مشاريع السلطة و التسوية و أوهام السلام، وأكدت على تصديها لمثل هذه المشاريع بمواصلة عمليات المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي وشدّد د. الشقاقي على إنسجام حركته مع أهدافها قائلاً: " لقد نهضنا لقتال العدو وما دون ذلك هوامش"، كل ذلك دفع بقيادة العدو إلى توجيه ضربة مؤلمة جداً للحركة تمثلت في اغتيال ثلاثة من أهم قادتها وأركانها خلال مراحل متتالية وهم ممثل الواجهة السياسية والإعلامية للحركة في غزة هاني عابد وقائد الجهاز العسكري للحركة محمود الخواجة وأمينها العام المؤسس الدكتور فتحي الشقاقي وهو ما اعتبره الاحتلال في حينه بمثابة ضربة قاضية لحركة الجهاد.
حركة الجهاد ورغم فداحة خسارتها باغتيال قادتها الكبار، سرعان ما أبصرت إرثهم وواصلت نهجهم بإستئناف عملياتها الفدائية المؤلمة كعملية ديزنجوف وسط تل أبيب التي نفذها الاستشهادي رامز عبيد بعد أشهر قليلة من اغتيال المؤسس الشقاقي وواصلت بفاعلية كبيرة مسيرة جهادها إلى جانب فصائل المقاومة خلال انتفاضة الأقصى، وظلت عصية على كل محاولات التركيع والترويض و الإحتواء ، بحيث أصبحت عقبة في طريق التسليم بالواقعية السياسية والحلول المرحلية التي يدفع نحوها الاحتلال، ويسجل لها أنها الفصيل الوحيد الذي رفض التوقيع على القبول بدولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧ خلال جولات الحوار الفلسطيني في عواصم عدة بقدر ما كانت تدفع باتجاه الوحدة والمقاومة، إضافة إلى تجديد تأكيدها على إلتزامها بثوابتها خلال إعلانها عن الوثيقة السياسية عام ٢٠١٨.
استهداف العدو المُركز لحركة الجهاد من خلال استفراده بالحرب على مجاهديها كما ظهر مؤخراً في معركة وحدت الساحات لم يكن وليد اللحظة بل كان يعبر عن سياسية ممنهجة اتبعها العدو في التعامل مع الحركة خلال مراحل عدة و في ساحات مختلفة ليس آخرها ما يجري اليوم في الضفة وفي القلب منها جنين ومعارك أسراها في السجون أيضاً، والهدف هو شل قدرة الحركة على إستمرار تبنيها لمشروعها المقاوم القائم على مشاغلته المستمرة في كل مكان على أرض فلسطين واستنزاف استقراره الأمني وما يرافق هذا الفعل الهام والكبير من تعبئة مستمرة للجماهير وإدامة إحياء الشعور بالقضية الفلسطينية في وعي الأمة في زمن يحاول العدو حرف الأنظار عن ذلك و قتل هذا الشعور عبر مسلسل التطبيع ومحاولة تسويق وخلق أولويات أخرى؛ فعمد مجدداً إلى رفع فاتورة الإقتراب من خط الجهاد الإسلامي ومواصلة نهجه من خلال تكثيف سياسة الاعتقالات والملاحقات بل وحتى الاغتيالات والتصفيات الجسدية لمقاوميها ، وفي كل مرة كانت حركة الجهاد تثبت قدرتها على الصمود وصلابتها في المواجهة من خلال استيعابها للضربات واستعادتها لزمام المبادرة بإستمرار مقاومتها للاحتلال.
الاستهداف المزمن الذي تعرضت له حركة الجهاد فشل في محاصرة نهجها المقاوم المنسجم مع الفطرة الوطنية الفلسطينية التي تأبى كل أشكال التنازل أو المهادنة مع العدو، ومراحل المواجهة مع العدو أثبتت استمرار الحضور المميز للجهاد الإسلامي الذي أثرى مشهد المقاومة رغم ضراوة الاستهداف، فثمت تجذر رافق مسيرة هذا النهج، ومع كل مرحلة مواجهة كان يبزغ نجم فارس جديد يحيي أمر الجهاد رغم قلة الإمكانيات وسطوة الواقع واختلاف الميادين، وما أن يقيد الأسر حريته أو تطوي الشهادة صفحته جهاده حتى يتسلم الراية مؤمن آخر ينتمي إلى ذات الوجع ليواصل على طريق الخلاص والتحرر الذي كان مهره في هذه المرحلة دماء القادة خالد منصور وتيسير الجعبري وشهداء جنين الذين شكلوا جميعاً بحضورهم امتداداً طبيعياً لمن سبقهم منذ مصباح الصوري و صالح طحاينة ومحمود الخواجة وعصام براهمة و إياد حردان و مقلد حميد ومحمود طوالبة ومحمد سدر ولؤي السعدي ومحمد الشيخ خليل وبهاء أبو العطا وماجد الحرازين والقافلة تطول ووصولاً إلى جيل جميل العموري وكتيبة جنين التي انبلج فجرها من نفق الحرية في سجن جلبوع و شقيقاتها المقاتلة التي تحولت إلى حالة ملهمة لمقاومة الاحتلال في كل أرجاء الضفة الغربية بعد أن راهن العدو على إنتهاءها باغتيال مجاهديها الذين ما زالت دماءهم تهب المقاومة روحها.
ولعل أجزل ما يمكن أن يلخص ويوضح شكل وخلفيات وحدود المواجهة بين الاحتلال والجهاد بعد أكثر من أربعين عاماً على تأسيسها ما قاله يوماً ما زئيڤ شيف رجل الاستخبارات الصهيوني عن صاحب مشروع حركة الجهاد: "لقد قرأنا فكر الشقاقي من رأسه إلى أخمص قدميه ، ووجدنا أننا لا يمكن أن نلتقى لا في أول الطريق ولا المنتصف ولا في نهاية الطريق ، فقررنا قتله دفاعًا عن دولة اسرائيل"، فيما لم يفت القتل في عضد مجاهديها واصلت حركة الجهاد دورها الحضاري ومسؤوليتها التاريخية على طريق التحرر من الهيمنة والإحتلال ولتؤكد ما قاله على د. الشقاقي بأن دماء الشهداء ستبقى تنجب المزيد من المقاتلين وتصعد من المواجهة مع الاحتلال حتى زواله باذن الله.