غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

ابن المخيم البار وقصته مع الشهادة

سميح أبو الوفا.. الشهيد الذي هزم العدو من "النافذة" وطرق "أبواب" النصر"!

الشهيد سميح أبو الوفا.JPG
شمس نيوز - مطر الزق

ألقى فراس بجسده المثقل بالتعب اليومي على الأريكة، ورمى برأسه في أحضان الوسادة ينتظر نبأ وصول نجله سميح الذي تأخر نصف ساعة عن المنزل، كانت حينها عقارب الساعة تُشير إلى الواحدة والنصف فجرًا، يتردد على مسامعه صوت زوجته وهي تتحدث مع سميح، اطمأن قلبه وبدأت جفونه تنسدل رويداً رويداً، استعدادًا للنوم، وما هي إلا لحظات وانقلبت الدنيا رأساً على عقب.

انفجارٌ شديد، هزَّ أركان المنزل، تبعه صراخ النساء والأطفال من حوله، لم يتمالك فراس أبو الوفا نفسه قفز عن الأريكة مرتبكًا يتجه يُمنة ويسرةً، كان حذاؤه بين يديه؛ لكن الصدمة دفعته ليصرخ على أبنائه: "أين ملابسي أين حذائي؟".

لحظات قليلة فقط كان فراس مستعدًا للخروج من المنزل، ارتدى كل شيء وركض في الشارع باحثًا عن نجله، وفجأة رنَّ هاتفه المحمول كان نجله البكر محمد: "يا أبي قصفوا الموقع الي فيه سميح"، سأله الأب المكلوم بسرعة البرق: "كيف سميح؟"، أجابه نجله بعدم وجود أي معلومة عنه.

أغلق محمد الهاتف مع والده فراس ليترك النار تشتعل في قلب والده، فأسرع فراس الخطى تجاه المستشفى وسط دوي الانفجارات الشديدة وصوت طائرات الاستطلاع (الزنانة) التي لا يتوقف ما سبب صداعًا كبيرًا لأهالي مخيم جنين.

 

مقاوم منذ صغره

الشاب سميح فراس أبو الوفا (19عامًا) أحد أبطال شهداء معركة "بأس جنين" ولد في المخيم وعاش حياة طفولية خجولة جدًا، لم يعطِ الدراسة اهتمامًا كبيرًا فمنذ أن وصل إلى الصف الثامن تغيرت حياته بالكامل، باتت حقيبته المدرسية لا تخلو من الرصاص أو الحديد الصلب، يحاول بشكل بدائي صناعة الأسلحة.

اشتكى المدرسون لوالد فراس الذي حاول أنْ يقنع ابنه انه صغير امام هذه الأفعال وان الفرصة امامه حينما يكبر؛ إلا أنه وصل لنقطة مسدودة: لا يا أبي أنا سأواصل!، بعدها قرر والده نقله إلى المدرسة الصناعية في جنين ليتعلم مهنة "كهربائي سيارات"، خشية عليه من الاعتقال أو الإصابة في محاور الاشتباكات.

ترك سميح مواقف كثيرة لا يمكن حصرها كما يقول والده فراس الذي تحدث عن العلاقة الطيبة لنجله سميح مع الأسرة قائلًا: "في حال طلبت أخته 10 شيكل، ولا يوجد في جيبه غيرها كان يُعطيها الأموال دون تردد، فهو إنسان حنون جدًا".

ولم يغفل فراس عن ذكر موقف سمعه من أصدقاء نجله الذين أشاروا إليه إلى أنَّ سميح جمع يوميته واستلف أموالًا من أصدقائه وذهب لتوزيعها على الأسر المحتاجة في مخيم جنين، يقول والده: "كان خجولًا جدًا؛ لكنه يُحب مساعدة الناس حتى لو على حسابه الخاص".

مواقف سميح الجميلة والمرحة لا تنتهي، قبل أيام قليلة فقط من استشهاده، كان سميح يساعد والدته في المنزل، طلب منها بإصرار كبير بأن ترضى عنه باستمرار، وعندما وجهت له سؤال "لماذا تُصر على طلب الرضى؟!، فقد رضيت عليك سابقًا واليوم وكل يوم فلماذا تُصر هذه الساعة يا بُني؟!، كانت إجابته دقيقة جدًا قال: "يا أُمي سمعت الشيخ يقول من ترضى عنه أمه يكون أقرب إلى موعد الشهادة".

 

نافذة المجاهد

لم تستغرب والدته من حديثه مطلقًا فقد تهيأت والدة سميح؛ لسماع نبأ استشهاد نجلها قبل أشهر عدة، في تلك اللحظة بالذات استعاد والده فراس صورة المقاتل الصنديد الذي مدَّ بجسده من نافذة أحد المنازل في مخيم جنين يطلق النار بشراسة صوب جنود الاحتلال الإسرائيلي لتتحول تلك الصورة إلى رمزًا للمقاومين الأشداء.

وصلت صورة سميح الذي أطلَّ بجسده الثائر من نافذة أحد المنازل بمخيم جنين وهو يطلق النار صوب جنود الاحتلال، إلى والده فراس بعد انتشارها وتداولها عبر منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام، فورًا تواصل الأب مع نجله طالبًا منه التوضيح والتأكيد، لكن المفاجأة كنت قوية جدًا.

نفى سميح صلته بالصورة قطعًا؛ لكن والده واجهه بالأدلة المقنعة يقول له: "هذا الحذاء لك؟ هذه الملابس لك؟"، في تلك اللحظة ظنَّ البعض أن سميح سيستسلم ويعترف بذلك، لم يكن والده يستجوبه بعنف إنما كان بابتسامة رقيقة تعشق المقاومة وبحب الانتماء إلى الوطن والتضحية من أجل مقدساته وأبنائه.

"هذه الملابس وهذا الحذاء تحديدًا أعطيتهم لصديقي قبل أيام"، هكذا أجاب سميح والده..، لكن والده قال: "لست ضد المقاومين إذا كنت أنت ربنا يحفظك ويوفقك، لا تتهور كثيرًا قاوم وقاتل بالطريقة الصحيحة".

في تلك اللحظة غادر سميح المنزل تاركًا والده في حيرة من أمره؛ لكنه كان متأكدًا من أن نجله صاحب تلك الصورة المشرفة، إذ يُشير والده بأن سميح يرفض الظهور العلني بالسلاح خشية من "القيل والقال" والدخول في شرك التباهي والأنا.

 

يستعد للقاء ربه

مضت الأيام سريعًا داخل مخيم جنين، قبل ساعات قليلة فقط من المعركة الشرسة في جنين دخل سميح المنزل تقول والدته: "أسرع بالاستحمام وارتدى ملابس شقيقه الجديدة وخرج يقول لنا "كيف أنا مشخص؟ أنا حلو؟"، كأنه كان يستعد للقاء ربه بأفضل الثياب وأجملها.

لم تتجرع والدته المزاح؛ تلك الكلمات دفعت قلب الأم للبحث في دفاتره القديمة، لتستذكر مقولته السابقة: "إذا استشهدت ما تزعلوا زغردوا ورشوا الورد"، استفاقت الأم سريعًا وطلبت منه ألا يتأخر في تلك الليلة.

مرت عقارب الساعة عن الواحدة فجر الاثنين (3 يوليو 2023) وقد تجاوز سميح الزمن الذي وضعته والدته له لكنها صبرت قليلًا وعندما وصل مؤشر الساعة إلى الواحدة والثلث تقريبًا اشتعل القلب شوقًا لرؤية فلذة كبدها.

 

لحظة الانفجارات

في تلك اللحظة كانت الأم تجتمع بزوجها فراس في صالة المنزل، ونظرًا لشوقها وقلبها المشتعل نارًا دخلت غرفتها واتصلت بسميح، فجأة فتح سميح الكاميرا لتراه مبتسمًا ومتشوقًا للقاء ربه تقول: "هذه أخر صورة رأيته فيها".

دقائق قليلة مرت على الاتصال الأخير قبل أن تنقلب الدنيا، انفجارات هنا وهناك صوت طائرات "الزنانة" لا يتوقف انتفض الأب وقفز من الأريكة التي كانت تحتضن جسده، واتجه صوب الشارع باحثًا عن نجله سميح، هنا تقلى اتصلا من نجله محمد الذي أخبره بأن طائرات الاحتلال قصفت الموقع الذي كان يتردد عليه سميح، فورًا توجه إلى المستشفى.

أما زوجته التي انفجرت عيناها بالدموع لحقت بزوجها دون أن تصل إليه؛ فوجدت شابًا تعرف عن قرب سألته عن نجلها: "أين سميح؟"، قادها الشاب بسيارته بشكل عاجل إلى حيث يمكث سميح، صوت سيارات الاسعاف يعلو وصراخ النساء والاطفال يشتد كثيرًا كلما اقتربت السيارة من مكان سميح.

أمسكت والدة سميح بالشاب الذي أصولها إلى مكان سميح، فقالت له: "هل أنت متأكد بأن سميح هنا؟"، فأجابها بدموعه التي انفجرت كالنهر الجارف، حينما وصلت التقت بزوجها فراس وعدد من اقاربها الذين نقلوها إلى مكان أكثر أمناً في ظل القصف المتواصل.

 

يومان في ثلاجات الموتى

يقول فراس صوته مليء بالحزن والألم لـ"شمس نيوز": "أصيب سميح بشظايا صاروخ اخترقت (8 سم) قرب القلب إضافة إلى شظايا أخرى اخترقت جسده الطاهر"، توقف فراس للحظة عن سرد الحكاية ليستعيد ذاكرته قائلًا: "كأي أب كنت أسعى لأن أزوجه كي يهدأ قليلًا وألا يخرج لمواجهة الاحتلال فكان يرد على حواري معه "اتغلبش حالك يا أبي أنا بيتي جاهزة... وعندك محمد ابني له بيت وزوجوا واعتني فيه.. أنا فاتركني بيتي جاهز وزوجتي جاهزة".

وبعد استشهاد سميح عاد الجدل بين أبناء مخيم جنين حول صورة المقاتل الذي ظهر من نافذة أحد المنازل ليطلق النار صوب جنود الاحتلال الإسرائيلي قبل 5 أشهر تقريبًا من معركة "بأس جنين" إذ أكد والده بأن أصدقاء سميح أبلغوه بأن الصورة تعود لنجله مقدمين له العديد من الصور التي تدل على ذلك.

ونظرًا للاجتياح الواسع لجنين فقد مكثت جثة سميح في ثلاجات الموتى ليومين، حتى انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي لتجر معها أذيال الخيبة والهزيمة، قبل أن يتم تشيع جثمانه الطاهر ضمن موكب شهداء معركة "بأس جنين".