عيونه مليئة بالقوة والتحدي والعنفوان، كلما نظر إليه السجانين ارتعدوا خوفًا ورعبًا، وعندما يتحرك يُمنة ويسرة تحوطه قوات الاحتلال تحوطه من كلِ مكان، تدور في مخيلتهم أسئلة كثيرة، "هل يفعلها محمود مرة أخرى ويحفر نفق أسفل غرفة العزل؟"، "هل هذا الجسد يستطيع المرور من حفرة صغيرة لمسافات طويلة؟".
هكذا وصف "محمد" شقيق الأسير البطل محمود العارضة أحد أبطال نفق الحرية مشهد اقتحام قوات إدارة مصلحة السجون الإسرائيلي لغرفة العزل بهدف نقله إلى غرفة أخرى ويصل الأمر في كثير من الأوقات لنقله إلى غرفة عزل في سجن آخر.
كلما تمكنت شقيقته باسمة وشقيقه الآخر من زيارة محمود في سجون الاحتلال، ذهب "محمد" -الممنوع من الزيارة- مباشرة إلى منازل أشقائه متسائلًا "كيف حال محمود؟ معنوياته؟ رسالته؟ طلباته؟"، لكنه يتفاجأ دومًا بأن محمود يمد أشقائه بالقوة والعزيمة والإرادة والصمود، يقول "محمود رجل عظيم يملك عقلية صلبة لا يمكن أن تراه مهزومًا مطلقًا".
لم يتمكن محمد خلال حديثه لمراسل "شمس نيوز" من إخفاء حزنه وألمه فقد كانت نبرة صوته مليئة بالشوق والحنان لاحتضان محمود، فالشقيقين لم يلتقيا منذ 6 سنوات تقريبًا: "أنا مشتاق للجلوس مع محمود والحديث إليه عن قوة الإرادة والعزيمة والتصميم الذي يتسلح بها أمام إدارة مصلحة سجون الاحتلال لتحقيق أهدافه بالحرية والانتصار"
يُردد محمود بشكل دائم أمام السجانين "لو قدر لي لفعلتها مرة أخرى" يقصد انتزاع حريته عبر نفق الحرية أسفل السجن، وفي تلك اللحظات يُصاب السجانين بالقهر والصدمة أمام الصمود الاسطوري لمحمود وجميع رفاقه الأبطال.
"منذ إعادة اعتقال محمود وأبطال نفق الحرية –قبل عامين- تتخذ إدارة مصلحة السجون إجراءات إجرامية قاسية جدًا تتمثل بالعزل الانفرادي واقتحام الغرف والتفتيش والنقل من سجن إلى أخر ومنع الزيارة وتحديد مبلغ الكنتينة"، وفقًا لمحمد الذي أكد أن كل تلك الاجراءات لم تهز شعرة واحدة من رمش محمود وأبطال الحرية.
وتهدف إدارة مصلحة السجون من الاجراءات التعسفية بالعزل والنقل المستمر كما يؤكد محمد خوفهم وخشيتهم من أن يتمكن أبطال نفق الحرية من تكرار عملية انتزاع الحرية عبر حفر نفق جديد أو نقل التجربة للأسرى في السجون الأخرى.
يتوقف محمد لحظة عن سرد المعاناة ليستذكر مشاهد توثق لحظات الوحدة والإخوة بين أبناء شعبنا لا سيما أبناء الداخل المحتل (أراضي الـ48) مع الأسرى الأبطال يقول: "بعد هبة القدس عام 2021 ومنتصف عام 2022 تواصل معنا أسرى من الداخل المحتل".
"يُشير أحدهم بإصبعه إلى مجموعة من الأشخاص يقول هل ترون ذاك الشخص؟ إنه محمود العارضة ابنكم يسمعكم الآن تحدثوا معه" هكذا تواصل أحد المعتقلين من أراضي عام (الـ48) مع عائلة محمود في تلك اللحظة لم يتمالك أشقاء محمود دموعهم التي انهمرت كالمطر.
ينادي عليهم محمود بأعلى صوته ليسمعها السجان من بعيد دون أن يدري أنه يُجري مكالمة فيديو من خلال المعتقلين من أراضي (الـ 48): "نحن بألف خير معنوياتنا عالية وإرادتنا قوية جدًا فقط.. انتبهوا لانفسكم، واوصيكم بـ(أمي)".
"هذه المشاهد التي وثقت تم حذفها مباشرة من المعتقلين ولم نتمكن من الحصول عليها، هؤلاء أبناء شعبنا في الداخل المحتل فعلًا أبطال وطنيين مخلصين لقضيتهم وشعبهم"، هكذا قال محمد العارضة الذي تمكن من الاستمتاع برؤية شقيقه محمود ولو للحظات قليلة.
يستعيد محمد لحظات الفخر والعزة يقول: "ذكرى نفق الحرية هي ذكرى نفتخر بها ونعتز بها فقد رفعت رؤوسنا عاليًا وكسرت هيبة إدارة مصلحة السجون وكافة أجهزة جيش الاحتلال التي فشلت في العثور على الأبطال منذ اللحظة الأولى".
وينقل محمد رسالة شقيقه محمود وجميع الأسرى وعلى رأسهم أبطال نفق الحرية: "لا تنسونا من دعائكم، ارفعوا صوتكم عاليًا ضد إدارة السجون وقرارات المجرم ايتمار بن غفير، استخدموا كل الوسائل الممكنة لتحريرنا من قضبان السجون".
محمود العارضة.. سيرة ومسيرة
أمير أسرى حركة الجهاد الإسلامي، محمود عبد الله العارضة، قائد عمليّة "نفق الحريّة"، نجح بالتحرّر، مع خمسة أسرى آخرين في السادس من شهر أيلول 2021، من سجن "الجلبوع" في بيسان (احدى "مناطق 48")، بعد حفر وتخطيط استمر لأشهر، تحدّى فيها تحصينات الاحتلال واجراءاته المشدّدة وأثبت فشلاً أمنياً اسرائيلياً.
والاسير المحرّر، ابن مدينة جنين، كان قد اعتقل بتاريخ 21-9- 1996 ب "تهمة" الانتماء والعضوية في سرايا القدس، والمشاركة في عمليات للمقاومة أدت لمقتل جنود إسرائيليين، وحُكم عليه بالمؤبد و15 عاماً.
ولم تكن اليوم محاولته الأولى للتخلّص من قيد الاحتلال، فكان العارضة قد حاول الفرار عام 2014 بحفر نفق من سجن "شطة، في "بيسان" أيضاً، ويعتبر من أقسى السجون الإسرائيلية حيث يتعرّض فيها الاسرى الفلسطينيون لشتى أنواع التعذيب والانتهاك، والنوم دون أسرّة، والاكتظاظ في زنزانة ثلاثة أمتار فقط.
وتعرّض "العارضة" خلال فترات اعتقاله للعقوبات والتضييق، كما كان يعاني وضعاَ صحيّاً صعباً فعامله الاحتلال بسياسة "الإهمال الطبي"، وقد تم عزله مرتين: عام2011 لمدة ستة أشهر دون ذكر الأسباب وعام 2014 استمرت الفترة لأكثر من سنة.
السجن والاعتقال لم يمنعا محمود العارضة من التقدّم على الصعيد العِلمي وتبوّء المناصب، فقد حصل على شهادة الثانوية العامة داخل أسره وشهادة البكالوريوس في التربية الإسلامية؛ و"يعتبر من المرجعيات الثقافية في داخل السجون" وألّف عددًا من الكتب والروايات من بينها "الرواحل" و"تأثير الفكر على الحركة الإسلامية في فلسطين"، وغيرها من المؤلفات التي لم تنشر بعد، وانتخب عضواً في الهيئة القيادية العليا لأسرى الحركة في السجون ونائباً للأمين العام للهيئة.
وكان العارضة، قد اعتقل سابقاً في العام 1992 قبل ان يُتمّ السبعة عشر سنة، على خلفية مشاركته بانتفاضة الأقصى الأولى، حكم حينها بالسجن 4 سنوات أمضى منها حوالي الثلاث سنوات ونصف (41 شهراً) ليطلق سراحه خلال افراجات "اتفاقيات أوسلو".
والأسرى الخمسة الاخرين الذين حرّروا أنفسهم اليوم في عملية "نفق الحرية"، هم:
¬ _ محمد قاسم عارضة (39 عامًا) من عرابة - جنين، ومعتقل منذ عام 2002، ومحكوم بالسجن مدى الحياة.
_ يعقوب محمود قادري (49 عامًا) من بير الباشا - جنين، ومعتقل منذ عام 2003، ومحكوم بالسجن مدى الحياة.
_ أيهم نايف كممجي (35 عامًا) من كفردان -جينين، ومعتقل منذ عام 2006، ومحكوم بالسجن مدى الحياة.
¬_ زكريا زبيدي (46 عامًا) من مخيم جنيين، وهو معتقل منذ عام 2019، وما زال موقوفًا دون حكم.
_ مناضل يعقوب انفيعات (26 عامًا) من يعبد - جنين، ومعتقل منذ عام 2019