تحاول عائلة أبو محمد ترتيب خيمتها من جديد بعدما كشفت الأمطار عيوبًا عدة في -الشادر- سقف الخيمة، إذ تساقطت الأمطار في الداخل لتصاب بعض الأغطية -الحرامات- التي حصلوا عليها بشق الأنفس بالعفن، يُمسك محمد بيده اليمنى الشاكوش وفي يده الأخرى يُزيل العرق عن جبينه، وفي الزاوية المقابلة يشدُ والده الشادر بقوة لتثبيته وترتيبه بشكل مناسب ليمنع تسرب المياه.
تجددت معاناة عائلة أبو محمد (45 عامًا) بشكل كبير جدًا؛ فبعد ثلاثة أسابيع تقريبًا من نصب الخيمة الأولى في زاوية إحدى مدارس الإيواء بدير البلح يعود من جديد لترتيب خيمته المتهالكة بفعل تساقط الأمطار والرياح الشديدة، يساعده في ذلك جميع أبنائه وأشقائه وأبناء أشقائه.
خيمة ضد الرياح والأمطار
فالخيمة التي يغطي سقفها النايلون لا يتعدى (عرضها عن 4 أمتار بطول 6 أمتار)، ومع ذلك يعيش بداخلها نحو 35 شخصًا من الذكور، أما زوجاتهم وبناتهم يعيشون في غرفة صفية أكثر سوءً من الخيمة لاكتظاظ الأعداد وسوء الخدمات.
في الزاوية الثالثة من الخيمة يقف شريف وعدد من أبناء أعمامه يثبتون وتد الخيمة في الأرض بمسامير الباطون بشكل أكثر قوة من السابق كي لا يتحرك مع شدة الرياح والامطار في الأيام القادمة، استمر العمل في إعادة ترتيب الخيمة مدة ثلاث ساعات تقريبًا لكن المعناة لم تنتهِ هنا.
فبعد تثبيت الخيمة بشكل جيد تتجدد معاناة عائلة أبو محمد اليومية التي يعيشها جميع النازحين في مدراس الإيواء، فينقسمون إلى مجموعات عدة، إحداها تذهب للوقوف إلى طابور الخبز أمام المخابز الرئيسية في دير البلح.
أما المجموعة الثانية كما يقول أبو محمد لمراسل "شمس نيوز"، تذهب إلى طابور المياه لتعبئة الجالونات بالمياه المعدنية من محطة التحلية، ومجموعة أخرى تذهب للبحث عن الأخشاب في الشوارع والأزقة وأماكن القصف الإسرائيلي.
فيما يتوجه بعض الشباب المتزوجين مع أطفالهم إلى العيادات القريبة من المدارس أو الصيدليات أو مستشفى شهداء الأقصى؛ لعلاج الأطفال من الأمراض التي أصابتهم، إذ تُشير أم وليد لمراسل "شمس نيوز" إلى أن أسباب الأمراض التي تصيب الأطفال تعود إلى الاكتظاظ الكبير داخل الصفوف والخيام أو بسبب الأمراض المعدية نتيجة؛ لتجمع مياه الصرف الصحي داخل دورات المياه وتسربها خارج الأبواب وانتقالها من خلال الأحذية إلى الصفوف والخيام المنتشرة في ساحة المدرسة.
أيام محددة
واعتادت عائلة أبو محمد ترتيب أيامها بشكل جيد، فقد قال أحد أبنائها لمراسلنا: "الاحتياجات كبيرة جدًا والمعاناة تتضاعف وتزداد مع مرور وقت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد شعبنا منذ نحو 37 يومًا تواليًا".
أكثر الاحتياجات التي لا يمكن الاستغناء عنها كما أوضحت أم وليد، الخبز والمياه وكلا السلعتين من أساسيات الحياة؛ لذلك تجد العائلات النازحة ترسل أبنائها إلى المخابز الرئيسية منذ الساعات الأولى للفجر بهدف الحصول على "ربطة الخبز".
مع مرور الأيام اشتدت معاناة النازحين في المدارس، إذ توقف العمل في المخابز بسبب شح الوقود والطحين، لكن الحاجة دفعت الناس للبحث عن الطحين في جميع المحلات التجارية في مدينة دير البلح، وخلال ساعات فقط باتت المحلات خالية من الاحتياجات الأساسية.
وهنا استعرضت العائلات التي تمكنت من الحصول على بعضٍ من الطحين، إبداعاتها للتغلب على هذه المعاناة الشديدة؛ فبدلًا من الانتظار على طابور يصل طوله إلى نحو 100 متر أمام المخابز بدأت العائلات تستخدم خبز الصاج، وعندما زاد طابور الصاج استحدثت العائلات طريقة قديمة للخبز على النار.
عندما تشير عقارب الساعة إلى الخامسة فجرًا تتجه مجموعة من أبناء عائلة "أبو محمد" صوب الشوارع والأزقة والأراضي الواسعة والمنازل المدمرة رغم الخطر الكبير بسبب التحليق المكثف للطائرات الإسرائيلي واستمرار حرب الإبادة، بحثًا عن الحطب وبعد ساعات يبتسم الحظ للعائلة التي عثرت على بعضًا من الأخشاب استعدادًا للخبز على النار، يعود الأبناء مبتسمين إلى الخيمة ليجدوا أمهاتهم في انتظارهم.
تبتسم "أم وليد" بعد رؤية أبنائها وأبناء أشقائها وأسلافها لتقول: "بعدما تشرق الشمس في الساعة السابعة تقريبًا نذهب إلى خيمة أعدها أبنائنا خصيصًا للأكل ورؤية الأبناء والأعمال اليدوية بعيدًا عن تكدس النازحين".
وتبدأ "أم وليد" بعجن الطحين وإعداد خبز الصاج، ويتزامن ذلك مع قيام فريق آخر من الأبناء بإشعال النار؛ لتمتد تلك العملية إلى أكثر من ثلاث ساعات بسبب إقدام نحو 5 عائلات على خبز الصاج لأبنائهم.
الخبز على الفحم
هذا العمل متعب جدًا ويستغرق وقتًا طويلًا، إذ بدأ الخشب والحطب المنتشر بين الطرقات والأماكن المقصوفة والأزقة يتقلص تدريجيًا كما يقول أحد أبناء العائلة لمراسلنا
في ذلك الموقف تحديدًا أبدعت إحدى العائلات وتمكنت من تحويل -طنجرة الكهرباء- إلى -طنجرة فحم- عن طريق قص أسلاك الكهرباء وتحويل السقف العلوي من -الطنجرة- إلى غطاء ووضع -شبك- أسفل الغطاء بسنتمترات ثم يتم وضع الفحم على -الشبك-.
يُشير محمود إلى أن تكلفة شراء وترتيب -طنجرة الفحم- تصل إلى 55 شيكل وقد يزيد سعرها وينقص وفقًا للبائع.
استخدمت أم وليد وزوجات أشقائها طنجرة الفحم وأعربت عن سعادتها للتخلص من معاناة النار التي تؤثر سلبًا على العيون وصحة الانسان، والتخلص من الساعات الطويلة جدًا التي يقضيها أبنائها بحثًا عن الخشب في الطرقات والأزقة.
طابور المياه
ويتزامن الخبز على -طنجرة الفحم- توجه مجموعة أخرى من أبناء العائلة لتعبئة الجالونات بالمياه من محطة التحلية والتي تحتاج إلى وقت طويل من الانتظار أيضًا، لكن الطابور بدأ يقل لسببين الأول أن الكثير من الناس بدأت تبيع المياه على أبواب المدارس بمبلغ يصل إلى (1 شكيل او 2 شيكل) وفقًا لرغبة البائع، أما السبب الثاني فهو نتيجة تعبئة النازحين لجالونات ذات سعة واسعة تكفيهم لأيام عدة.
ويشعر بلال بالفرح والسعادة عندما يصل مبكرًا إلى محطة تحلية المياه، إذ يكون عدد الناس المتواجد قليل جدًا، يقول: "كنت أتوجه إلى محطة التحلية مبكرًا في ساعات الصباح حيث الطابور طويل جدًا جدًا؛ لكن مع مرور الوقت اكتشفت أن طابور المياه في أوقات العصر لا يتعدى أصابع اليد، مما منحني وقتًا إضافيا للاستفراغ للبحث عن احتياجات زوجته وأبنائه الصغار".
طابور قضاء الحاجة
أكثر الاحتياجات المؤذية والصعبة للإنسان هو دخول "دورة المياه" في مكان ضيق جدًا -مدرسة- يعيش بداخله (من 6 إلى 7 آلاف شخص) في الأيام الأولى من النزوح استخدم النازحين دورات المياه بشكل لا يعقل مما أدى إلى اتساخ دورة المياه، إذ وصل الأمر إلى حد مقزز يقول شريف: "كنت استفرغ نتيجة الروائح النتنة لعدم تنظيف الحمامات وانقطاع المياه بداخلها".
البحث عن دورات مياه نظيفة في المدارس بات أمرًا صعبًا جدًا، وانتقلت الحالة إلى المساجد المحيطة بـ (4 مدارس) ينزح بداخلها ومحيطها من (15 إلى 20 ألف شخص)، يُشير محمد إلى أن "جميع النازحين يريدون دخول الحمام وهذه حقهم؛ لكن الشيء المؤذي عدم تنظيف دورات المياه وعدم توفر المياه أصلًا".
لم يتمكن محمد من قضاء حاجته منذ الصباح حتى ساعات المساء حيث وجد بعد بحثِ طويل على أحد المساجد النظيفة، يقول: "قضيت حاجتي واغتسلت بعد أكثر من 10 أيام؛ لكن في منطقة بعيدة جدًا عن مكان مدرسة الإيواء التي لجأت إليها".
أمراض معدية
تحاول أم مطر الاتصال على نجلها مرارًا وتكرارًا دون أن تصل إليه؛ بسبب ضعف شبكة الاتصالات إذ تقول: "ذهب نجلي مع طفله الصغير إلى مستشفى شهداء الأقصى لعلاجه من مرض مفاجئ أصابه أعراضه -اسهال ومغص شديد في البطن ووجع راس واستفراغ- وبعد أكثر من 5 ساعات عاد الطفل إلى الخيمة وقد استعاد جزء بسيط من عافيته.
تُمرر أم مطر يدها على رأس حفيدها الصغير بهدوء وشفقة مما أصابه تقول: "الحمد لله استعاد جزء من عافيته بفضل الله عز وجل أولًا ثم بجهود الأطباء في المستشفى الذين يبذلون جهود مضاعفة لعلاج المرضى وعلاج المصابين من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد السكان في القطاع".
كان الطفل نسيم يعاني وفقًا لوصف الأطباء لوالده من نزلة معوية حادة، إذ يُشير والده إلى أن قسم الأطفال بالمستشفى مليء جدًا بالحالات المرضية نتيجة الأمراض المعدية التي تنتقل من شخص إلى آخر إذ باتت المدارس مقرًا للأوبئة والحشرات بسبب اكتظاظ النازحين بشكل لا يمكن تحمله.
اشكال العائلات في المدارس
مع مرور الوقت في خيام المدارس واكتظاظ النازحين تزداد الإشكاليات بين الناس، إذ تتمحور الإشكاليات على الخبز والماء والطحين، وتشتد بين الأطفال والنساء بسبب الوضع السيئ داخل المدارس ما يشكل ضغطًا نفسيًا صعبًا على الجميع.
وفي هذه الحالة يتجه يوسف وزوجته وأبنائه إلى شاطئ البحر أو الكافي للتفريغ عن النفس رغم الخطر الكبير بسبب القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة وإطلاق البوارج الحربية للنيران الكثيفة صوب الشاطئ، حيث يقول يوسف: "قبل أيام استهدفت البوارج الإسرائيلي شابًا صغيرًا مع حصانه على شاطئ البحر فاستشهد على الفور وقتل الحصان وأصيب عدد من المارة".
يُشير يوسف إلى أنه يضطر إلى الذهاب لشاطئ البحر أو الكافي المقابل للشاطئ بهدف التفريغ عن النفس وقضاء دقائق مع الأطفال بعيدًا عن اكتظاظ الناس وتقليلًا لإشكاليات الأطفال.