وضع العدوّ الصهيوني مخطّطاته الأُولى لتهويد القدس منذ لحظة احتلال شرقيِّها (شطرها الغربي احتُلَّ عام 1948)، في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، عبر جُملة من التشريعات والسياسات والمُمارسات على الأرض، الرامية إلى إحداث تغيير جذري على المستوى السكّاني والعمراني والإداري للمدينة.
يُواصل الاحتلال تنفيذ مخطّطاته التي يُواجهها المقدسيّون بوعيهم، وبما يمتلكون من أدوات تُعزِّز صمودهم، كما تُشير محرّرة الكتاب آيات حمدان في تقديم "القدس: التطهير العِرقي وأساليب المقاومة"، الذي صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بداية العام الجاري.
وتُبيّن حمدان أن آليات السيطرة التي استخدمتها "إسرائيل"، لا تمتدّ إلى المقدّسات الإسلامية والمسيحية، وحرب الرواية التاريخية الاستعمارية لسرقة التاريخ الفلسطيني فحسب؛ فالتحدّي الأساسي الذي واجه الحركة الصهيونية هو أيضاً وجودُ الفلسطينيّين على أرضهم، والسعي إلى تحقيق التفوّق الديموغرافي الإسرائيلي، من خلال مصادرة الأراضي لمصلحة بناء المستوطنات والمحميّات الطبيعية، ودفْعِ الثقل السكّاني الفلسطيني إلى خارج حدود المدينة.
في دراسته "الديموغرافيا في القدس: الواقع والتحوّلات والاستشراف"، يعود راسم خمايسي إلى أن الاحتلال منذ "ضَمِّه" القدس الشرقية، وبَسْطِه سيادته عليها مُخالفاً القانون والشرعية الدوليَّين، أحال القوانين الإسرائيلية كلّها على الأرض والإنسان، باستثناء قانون المواطنة، حيث مُنِح المقدسي مكانة "مُقيم ثابت"، وبذلك بقي عُرضةً للتهديد بنزع هويّات الإقامة والطَّرد، وإشكاليّات مُتعدّدة تتعلّق بالسفر خارج بلده.
مُنح المقدسي صفة "مقيم" فظلّ مهدّداً بالطرد
المسألة الثانية التي تقف عندها الدراسة تتّصل بِرَسْم الحدود وفق اعتبارات جيوسياسية وديموغرافية، حيث شمل قرار الضمّ الذي أقرّته "إسرائيل" منذ 1967، ثماني وعشرين قرية فلسطينية إضافة إلى القدس العربية داخل حدود بلدية القدس الموسَّعة، ثم أتى جدار الفصل العنصري، بوصفه نتاجاً لـ"الديموغرافوبيا"، لتأمين عدم دخول الفلسطينيّين إلى القدس إلّا من خلال بوّابات وحواجز مُسيطَر عليها ومرصودة بإحكام من سُلطات الاحتلال.
وبالعودة إلى الإحصائيات السنوية، وصل عدد السكّان المقدسيّين الفلسطينيّين عام 2016 إلى 332 ألفاً، مُشكّلين نحو 37.7 بالمئة من عدد سكّان القدس. وفي الفترة ما بين عامَي 1967 و2016، ازداد عدد المقدسيّين بنحو 385 بالمئة، وفي المقابل ازداد عدد الإسرائيليّين بنسبة 178 بالمئة، مُوضّحاً أهمّية ذلك في مقاومة سياسات الإحلال فعلى الرغم من سياسة الحصر الإسرائيلية، ومَنْع إقامة الفلسطينيين من خارج القدس فيها، وتشجيع تكاثُر الإسرائيليّين وهجرتهم إلى المدينة أيضاً، إلّا أن نسبة زيادة المقدسيّين مثّلت أكثر من ضعف زيادة الإسرائيليين حتى اليوم، وفق الدراسة.
أما نزار أيوب فيتطرّق في دراسته "قراءة في السياسة الإسرائيلية لتهويد القدس الشرقية: سياسة هدم المنازل في القدس أنموذجاً للتطهير العِرقي"، إلى سياسة تقييد البِناء عبر تعقيد عملية حصول المقدسيّين على تراخيص البناء، ما يجعله أمراً شبه مستحيل. تُضاف إليها سياسة هدم المنازل في الأحياء العربية بالمدينة، والتي تنتهجها سلطات الاحتلال وتزداد على نحو مُطَّرد، وقد توسَّع نطاقُها، خلال العقد الأخير، بما يخالف مبادئ القانون الدولي وأحكام "اتفاقية جنيف الرابعة". لتحرم هذه الإجراءات المقدسيّين من حقوقهم في السكن اللائق وفي بيئة سليمة نظيفة وحقّ الإقامة والعيش بكرامة، بسبب اضطرارهم للبناء العشوائي غير المرخّص خارج معايير التخطيط ما يبقيه مُهدّداً بالهدم في أيّ لحظة.
ويناقش سامح حلّاق وبلال فلاح في دراستهما "الإجراءات الإسرائيلية وأثرها في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسكّان القدس الشرقية"، كيف انتزعت "إسرائيل"، منذ احتلالها شطر القدس الشرقي، صفةَ المواطَنة من الفلسطينيّين فيه، وحوّلتهم إلى مجرّد غرباء، إذ فرضت عليهم قانون إقامة خاصّاً بهم، يتطلّب إثبات أن مركز حياتهم يقع ضمن حدود "القدس الكبرى"، كما تُعرّفها "إسرائيل"، وإلّا انتزع حقّ الإقامة أو جُمّد، ومعرّضون لإلغائه في حال تغيّبهم عن البلاد لبضع سنوات.
وتُفصّل الدراسة ضريبة "الأرنونا" (أو المسقّفات) التي تُعدّ من أكثر الضرائب التي تُرهق المواطن المقدسيّ، حيث تفرضها البلديّات الإسرائيلية على مُستخدمي المباني والعقارات، لكنها تميّز ضدّ المقدسيّين بفرض ضريبة عالية على محلّاتهم التجارية التي تتلقّى خدمات محدودة، تساوي تلك المفروضة بالشطر الغربي من المدينة، حيث يتمتّع اليهود بمستوى عالٍ من الخدمات.
في دراستها "نحلم بخليل السكاكيني: عن المعلّمين المقدسيّين وكلاء للتغيير المجتمعي"، تلفت حنين مجادلة إلى المحاولات لربط جهاز التعليم في القدس بالمنظومة الإسرائيلية منذ عام 1967، بدءاً من إلغاء المنهاج الأردني، ثم إغلاق مكتب التربية والتعليم الفلسطيني، ثم سَنّ قانون الإشراف على المدارس الخاصة، ومحاولة فرض المنهاج الإسرائيلي. وتُضيء الباحثة، من خلال المقابلات التي أجرتها، على دَور مختلف للمعلّم المقدسي الذي يركّز على إدخال مشاريع اجتماعية تطوّعية بالإضافة إلى تدريسه المهارات اللازمة، ويُحافظ على هذا الدور في ظلّ حالة التراجُع المتواصلة في التعليم، في تحدٍّ لعملية السيطرة الإسرائيلية وإحباطها من خلال توجيه الطلبة وتوعيتهم بذاكرتهم وهويتهم الوطنية.
للمرابطين دورٌ اجتماعي وسياسي يحدّ من الأسرلة
نموذج آخر للمقاومة، يكتب عنه أحمد عز الدين أسعد في دراسته "السوسيولوجي والسياسي في حراك/ لا حركة المرابطين في المسجد الأقصى (2000 - 2019)"، حيث يتناول ظاهرة الرباط التي بدأت مع انطلاق "انتفاضة الأقصى" عام 2000، بتنظيم فعاليات ورحلات إلى الحرَم المقدسي، من إجل إبقائه عامراً بالمُصلّين والمرابطين، الذين تتمثّل وظيفتهم في منع إقامة الصلوات التلمودية داخل الأقصى، ومنع السرقات، والصلاة وقراءة القرآن وأداء العبادات؛ أي إنهم يقومون بدور اجتماعي - سياسي يُساهم في الحدّ من أسرلة وصهينة المسجد المستمرتين، ويتلاقى مع الحراك المقدسي العامّ الذي يهدف إلى تعزيز صمود المقدسيّين في البلدة القديمة وحماية المُلكيات المقدسية من تسريبها إلى الاستعمار الإسرائيلي.
بقيّة الدراسات في الكتاب تتوزّع على أربعة أقسام؛ الأول "جوانب تاريخية"، ويتضمّن دراسات "إشكالية الديني والسياسي في العلاقة بين الدولة السلطانية والأوقاف المسيحية في القدس العثمانية" لموسى سرور، و"الاستعمار بالمخيّلة: القدس في الصورة الفوتوغرافية المبكّرة" لعصام نصار، و"قراءة في النظرة الصهيونية إلى المنطقة الشرقية في الأقصى ومشروعات السيطرة عليه وتقسيمه" لعبد الله معروف عمر.
وقسم ثانٍ بعنوان "التعليم في القدس: فضاء للسيطرة والمقاومة"، ويشتمل على دراسات "سياسات الأسرلة في المجال التعليمي ومناهجه في القدس المحتلّة" لجوني منصور، و"تحريف المناهج الفلسطينية في القدس: حرب هويّة" لأنوار عبد الله قدح، إلى جانب دراسة حنين مجادلة، وقسم ثالث يحمل عنوان "أدوات السيطرة على المدينة وأساليب المواجهة"، ويضمّ دراسة "استعمار الطبيعة من خلال ممارسات هادفة لحماية البيئة" لجوني منصور بالإضافة إلى دراسات خمايسي وأيوب وحلاق وفلاح وأسعد.
ويحتوي القسم الرابع "القدس في السياسة الدولية"، دراسات "الموقف الأوروبي من القدس في ظلّ 'صفقة القرن' الأميركية" لأديب زيادة، و"تحوّلات عملية صنع القرار الأميركي بشأن القدس" لأحمد جميل عزم، و"القدس في السياسة الأميركية" لأسامة أبو ارشيد، و"نقل السفارة الأميركية إلى القدس: الأبعاد والتداخلات التاريخية والقانونية" لرشيد البزيم.
المصدر :العربي الجديد
قلم : محمود منير