يصب "أبو محمد" تركيزه في غرس الخيوط "بصنارة" الخياطة وتمريرها بين جوانب حذاءٍ مهترئٍ لأحد الزبائن ورقعه بالصمغ، وهو جالس في إحدى زوايا دوار "البركة" بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة؛ أملاً في إصلاحه ومكوثه لأطول فترة ممكنة مع صاحبه، بعد أن انعدمت سبل شراء حذاء جديد؛ نظراً لغلاء سعره، أو عدم توفره من الأصل، جراء منع استيراد الأحذية وغيرها من خلال المعابر التي سيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب العدوانية المستمرة منذ أكثر من 10 أشهر على قطاع غزة.
"أبو محمد عابد" رجل خمسيني من سكان قطاع غزة، اتَّخذ من مهنة "الاسكافي" مصدراً للرزق وسبيلاً لتوفير لقمة العيش وإعالة عائلته، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة والوضع الكارثي وغلاء الأسعار الفاحش الذي يعيشه أهالي القطاع؛ بسبب الحرب. يقول لمراسل "شمس نيوز" بلغةٍ عامية بسيطة: "الناس هنا استوت من ساسها لراسها، والغلاء في ازدياد كل يوم، والسلعة مش موجودة".
ويلجأ النازحون والمواطنون في قطاع غزة، لترقيع أحذيتهم المهترئة بفعل عامل الزمن أو المتآكلة بفعل النزوح المستمر أو المتضررة جراء شظايا الصواريخ، أكثر من مرة، في ظل الارتفاع "الجنوني" في أسعار الأحذية والتي وصلت إلى أكثر من 200 شيكل، وعدم توفر خيارات بديلة.
أمام "عابد"، يقف المواطن "أبو خليل بدوي"، منتظراً الانتهاء من إصلاح حذائه بإضافة رقعة جديدة وتثبيتها بالصمغ والخيط.. يهز رأسه مبتسماً أثناء استماعه لكلام "الاسكافي"، وسرعان ما يكرر بين الفينة والأخرى: "مَكْنُه منيح.. بزيادة رقعة يا راجل"، مضيفاً: "الرقعة على قد المشقة" وهو تعبير صريح عن مدى المعاناة التي يواجهها في الحفاظ على ما تبقى من حذائه المليء بالرقع في جوانبه كافة.
هذا الموقف دفع مراسلنا لسؤال المواطن "بدوي" مستفسراً عن سر هذا الإلحاح والتكرار، ليجيب الأخير: "سعر الحذاء أو الصندل مرتفع وما بقدر أشتريه، وبدونه لا طلعة ولا نزلة.. هذا سلاح النزوح!".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
غير بعيدٍ عنه، يحمل "إسكافي" آخر في العشرين من عمره، حذاءً مهترئاً بين يديه، ويحاول إصلاحَ ما تبقى منه للمرة الثالثة خلال هذا الشهر، وبعد أن ضاق ذرعاً وتصبب عرقاً، صاح بالزبونِ صاحبِ الحذاء: "هو ضل فيه إشي.. ارميه يا عمي".
هنا ينتهد الزبون "أبو طلعت اربيع"، قبل أن يُجِيب: "الدنيا كلها مرقعة ما وقفت ع قد صندلي"، ويردف: "زهقت (سئمت) من رقع هاد الصندل، لكن ما في عندي خيار تاني.. ما معي أشتري صندل جديد بسعر 200 شيكل ووضعي المعيشي صعب".
عند مدخل سوق مخيم النصيرات المُكتَظ بالنازحين، ترى بسطة أرضية تنتشر فيها كومة تزيد عن الألف "فردة من الشباشب" البلاستيكية القديمة المهترئة، ويتهافت الناس على شرائها.
وقتها، رأت الكاتبة والأديبة فايقة الصوص، هذا المنظر، فدنت؛ وأخذت تجول بنظرها علَّها تجد حذاءً لأحفادها الصغار الذين "ذابت" أحذيتهم.
تقول الأديبة الصوص: "أعجبتني فردة، فانحنيت على الكومة، والتقطتها، وطلبت من البائع أن يعطيني أختها، فاستهجن طلبي، وصدمني بقوله: ولا فردة إلها أخت!"
وتتساءل الأديبة الفلسطينية: "ما هذا؟، أهو نوع جديد من أنواع الإذلال لشعبنا الذي بات في معظمه حافياً، أو منتعلاً شبشباً بلاستيكياً مرقوعاً، وإن انقطع كعبه يلبسه نصف شبشب معتمداً على كعبه الآدمي!"
في مواصي خانيونس جنوبي قطاع غزة، يستوقفك جَمعٌ من الأطفال، وسط أشعة الشمس اللاهبة التي تكوي أرجلهم وتحرق جلدهم، يلعبون وهم "حفاة" الأقدام وسط الطرقات المغمورة بمياه الصرف الصحي، وقد تكونت طبقة سوداء سميكة على أقدامهم الملطخة بالمياه العادمة والغبار وباتت أشبه "بحراشف جلدية سوداء" -إن جاز التعبير-.
ما تعكسه هذه المواقف ليست سوى جزء بسيط من الصورة الأكبر لأزمة تآكل الأحذية القديمة وعدم توفر الجديدة في قطاع غزة. فالكثير من المواطنين والنازحين يمشون بأحذية ممزقة بالية، فيما تكافح النساء للحفاظ على أحذيتهن صالحة للاستخدام قدر الإمكان، وهو ما يُفاقم من معاناة أهالي القطاع ويثقل من كاهلهم، ويُشَكِّل بيئةً خصبةً لانتشار الأمراض الجلدية خصوصاً الفطريات والبكتيريا التي تصيب "الأقدام" بالتقرحات والتشققات، في ظل استمرار الحرب.