يستلقي الطفل منير أبو زريق (7 أعوام) على سرير أزرق في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح وسط قطاع غزة، تتشابك الأنابيب في كفه الصغير، وتُغرس الإبرة في يده النحيلة، وقد غارت عيناه في وجه شاحب أنهكه تكسر الدم الحاد، كمن يُصارع الزمن في سباقٍ غير متكافئ مع الموت، في ظل عدم توفر الدواء، وإغلاق المعابر، خلال حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر2023م على قطاع غزة، والتي لم يشهد لها مثيل في التاريخ الحديث.
تتحرك أنفاسه ببطء، بينما تراقبه والدته بقلق ودموع محتبسة، وهي تُدرك أن حياتَه معلقةٌ بين قسوة المرض وعدم قدرته على مغادرة غزة للعلاج، على الرغم من صدور تحويلة طبية منذ مايو 2024م.
القصة المأساوية بدأت في شهر سبتمبر 2023م، أي قبل الحرب بشهر واحد فقط، حين أظهرت الفحوصات إصابة الطفل "منير" بتكسر حاد في كريات الدم الحمراء، يستدعي نقل وحدة دم له كل شهر أو أقل، لكن هذه الوحدات لم تكن دواءً دائماً، بل حملت في طياتها خطراً آخر، إذ أدت إلى تراكم الحديد في الكبد والقلب والطحال، في ظل غياب العلاج الخافض للحديد عن مستشفيات القطاع بفعل الحصار وتوقف الإمدادات الطبية.
ومع اندلاع الحرب، ازدادت حالته سوءاً، سيما مع انقطاع الأدوية تماماً، وتراجع الخدمات الصحية إلى أدنى مستوياتها، مع انهيار المنظومة الصحية التي تعمد الاحتلال الإسرائيلي استهدافها خلال حرب الإبادة.
تقول والدته لمراسل "شمس نيوز": "كان من المقرر أن يخضع منير لعملية زراعة نخاع عظمي قبل عامين، غير أن تأخر السفر والحرب جعلت حالته أكثر خطورة، حتى صار كل يوم يمر يحمل احتمال أن يفقد حياته".
وتضيف، وهي تحاول ترتيب أنفاسها المرهقة: "كل يوم بروح المستشفى، بسمع نفس الجواب: لسه ما في موافقة من الاحتلال، وأنا بشوف ابني يضعف أمامي ويتألم"، تحاول أن تُبقي صوتها ثابتاً، لكن نبرتها خانتها فقالت بلا تردد: "كان يلعب ويركض زي باقي الأطفال، اليوم حتى الحكي صار يتعبه."
في زاوية الغرفة، حقيبة صغيرة جهزتها والدة منير منذ أسابيع، تضم بعض الملابس وأوراق التحويلات والتقارير الطبية، تقول: "مش طالبين شي، بس ورقة تسمح له يطلع، ابني بدو يعيش حياته بدون أمراض."
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
وتعيش أسرة الطفل "زريق" في ظروف بالغة الصعوبة، بعدما نزحت خلال الحرب من منطقة إلى أخرى، متنقلةً بين المدارس والملاجئ قبل أن تعود إلى منزل العائلة في دير البلح، الذي لم يعد كما كان، فقد ضاق بهم بعد أن تقاسموه مع الجدة، والأحفاد الذين فقدوا بيتهم.
تقضي الأم أيامها بين عناء المرافقة في المستشفى والخوف من مفاجآت المرض التي لا تهدأ، فيما يحاول الأب، رغم قلة الحيلة، تأمين ما تيسر من الغذاء لأطفاله وسط هذا الحصار الخانق.
وفي غرفة العلاج، يُمسك "منير" بيده الضعيفة أنبوب المصل كأنه خيط أمل لا يريد أن ينقطع، يحدق في الفراغ بعينين متعبتين، وكأنه يسأل الحياة أن تمهله بعض الوقت، "فالموت على بعد معبر واحد، والحياة مؤجلة إلى إشعار آخر".
حصار طبي خانق
وتتصاعد التحذيرات الدولية من تفاقم الأزمة الصحية التي يواجهها الأطفال في قطاع غزة، في ظل تدهور غير مسبوق لنظام الرعاية الصحية منذ بدء الحرب، وسط مطالبات عاجلة بتوفير ممرات آمنة لإجلاء آلاف الحالات الحرجة إلى الخارج.
وبحسب آخر التحديثات الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة ووزارة الصحة بغزة، فإن قرابة 4,000 طفل يحتاجون إلى إجلاء طبي فوري للعلاج خارج القطاع حتى أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2025، ضمن إجمالي يتراوح بين 15,000 إلى 16,000 حالة مرضية حرجة لا يتوفر علاجها داخل غزة بسبب انهيار الخدمات الطبية ونقص التجهيزات.
وكانت الأمم المتحدة قد دعت، في وقت سابق من العام الجاري، إلى إجلاء ما لا يقل عن 2,500 طفل بشكل عاجل، محذرة من أن التأخير في توفير العلاج المتخصص لهؤلاء قد يحول الكثير من الحالات إلى إصابات دائمة أو يؤدي إلى الوفاة.
وتشير تقديرات صحية إلى أن العدد الإجمالي للمرضى والجرحى المحتاجين للعلاج خارج القطاع تجاوز 16 ألفاً، يُشكل الأطفال نسبة كبيرة منهم.
وذكرت منظمة الصحة العالمية أن نحو ثلثي المرضى الذين نُقلوا بالفعل للعلاج خارج غزة –أكثر من 7,600 مريض– هم من الأطفال، ما يسلط الضوء على حجم الكارثة الصحية التي تطال الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع.
وحذرت وزارة الصحة بغزة من أن استمرار الحصار وتعطيل آليات الإجلاء سيضاعف أعداد الوفيات بين الأطفال، خاصة أولئك المصابين بالأورام، أمراض القلب، الفشل الكلوي، الإصابات البليغة، والتشوهات الناتجة عن القصف، في وقت خرجت فيه معظم المستشفيات عن الخدمة وتكدست المراكز الطبية القليلة المتبقية بما يفوق طاقتها، في في وقتٍ تغلق فيه قوات الاحتلال معبر رفح وتمنع إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية، ما يهدد حياة العشرات منهم يومياً.
وتطالب المجتمع الدولي بالضغط لفتح ممرات آمنة، وتسهيل سفر المرضى الأطفال للخارج لضمان تلقيهم العلاج المنقذ للحياة، مؤكدين أن إنقاذهم بات سباقاً مع الزمن في ظل الحرب وتدهور البنية الصحية في غزة.
