بسم الله الرحمن الرحيم
عرض كتاب: اختلاق إسرائيل القديمة , إسكات التاريخ الفلسطيني
تأليف: كيث وايتلام
عرض: باسم شعبان
يقول المؤلف عن مشروع الكتاب أن عليه أن يواجه العقبات الضخمة لما يمكن تسميته" خطاب الدراسات التوراتية", و أن عليه أن يتغلب عليها فهذا الخطاب يشكل جزء من شبكة معقدة من الدراسات العلمية عرفها ادوارد سعيد بأنها" الخطاب الإستشراقي". فقد تجاهلت الدراسات التوراتية تاريخ فلسطين و أسكته نظرا لأن مجال اهتمام هذه الدراسات هو إسرائيل القديمة التي تم فهمها و تصويرها على أنها منبع الحضارة الغربية. لقد استهلك البحث في موضوع إسرائيل القديمة طاقات فكرية ضخمة و موارد مادية هائلة كما يقول المؤلف في جامعاتنا و كليات اللاهوت و المدارس الدينية و حلقات البحث و أقسام الآثار خاصة في أمريكا و أوروبا و إسرائيل و الشيء ذاته ينطبق على الجامعات "العلمانية"’, فلقد تعمدوا التهميش و عدم السماح للتاريخ الفلسطيني القديم بالوجود ثم تم اختراع " إسرائيل القديمة", حيث سيطرت على الدراسات التوراتية منذ نشأتها فكرة مؤداها أن فهم تاريخ إسرائيل القديمة جوهري لفهم التوراة العبرية, حيث تم تكريس ما يسمى بخطاب الدراسات التوراتية, و هو عبارة عن شبكة متداخلة و قوية من الأفكار و التوكيدات التي يعتقد ممارسوها أنها نتاج الدراسات العلمية الموضوعية, بينما ما هي في الحقيقة إلا ممارسة للقوة, و أية محاولة لتحدي الروايات المغروسة بقوة من المرجح أن يتم رفضها على أساس أن لها دوافع أيديولوجية, و لذلك تعتبر غير مقبولة. و يقول إن أكبر المعوقات ضد تحقيق تاريخ فلسطين القديم هو أنه حتى لو تم تحريره من قيود الدراسات التوراتي يظل حكرا على العلوم الغربية, و لقد نبه إدوارد سعيد إلى العلاقة القوية بين الثقافة و الإمبريالية في تطور الاستشراف و الروايات الغربية و ما ينقصنا حسب تعبيره هو القراءة بطريقة مقارنة للتاريخ الفلسطيني من وجهة نظر غير غربية, إن نشوء هوية فلسطينية حديثة و التعبير عن تقرير المصير قد ركز على التاريخ الحديث و ليس على التاريخ القديم, فالتاريخ الفلسطيني عني فقط بالقرنين الأخيرين و بصراعه مع الحركة الصهيونية, أما التاريخ القديم فقد بقي حكرا على إسرائيل, و تم تقديمه من وجهة نظر غربية و استشراقية و صهيونية بوصفه التعبير القديم عن الدولة الحديثة و شعبها اليهودي, و عن دراسته لا يعتبر وايتلام هذه الدراسة تاريخا لفلسطين و لكنها تبين كيف وضعت الدراسات التوراتية العقبات أمام إنجاز هذا التاريخ.
الفصل الأول: نصوص منحازة و تواريخ متصدعة
و هو يعرض في هذا الفصل نماذج لأعمال كتاب درسوا تاريخ فلسطين مثل فينكلشتاين و كوت و وايتلام و إيدن, و في تعليقه على أعمالهم يقول: إن كتابة التاريخ عمل سياسي, و أن المواقف و الآراء السياسية تحدد برنامج البحث و تؤثر بشكل قوي في نتائج أبحاث المؤلفين, و أن هذا يؤدي إلى كتابة " نصوص منحازة", و الدراسات التوراتية قد ركزت – بل اختلقت- "كيان" و ذلك الكيان هو "إسرائيل القديمة", بينما تجاهلت حقيقة التاريخ الفلسطيني, و هذا أيضا ما حصل عند كتابة تاريخ أوروبا, و كيف تم التداخل بين علوم التاريخ و علم الآثار و السياسة في الشرق الأوسط الحديث, فقد تبين كيف أن الدول القومية الأوربية ابتداء من الثورة الصناعية فصاعدا قد أنشأت تواريخ قومية لتبرير مكانتها في العالم و جعلها مثالا يحتذى, و هذا ينطبق بشكل خاص على بريطانيا و على باقي الشعوب الأنجلوسكسونية, و ظهر الاهتمام المتزايد من قيل القوى الغربية بشرق البحر المتوسط و الشرق الأوسط منذ تدخل نابليون في شؤون مصر, و تبين أن أصول دراسات علم الآثار الحديثة ما هي إلا قصة المؤامرة الدولية, و لقد تم استخدام التاريخ التوراتي و الكشف عن الكنوز الأثرية في المنطقة لصالح القوى الغربية و هيمنتها السياسية و إضفاء الشرعية على أطماعها الاستعمارية, و من المفارقات التي ينطوي عليها هذا الوضع مفارقة نبه عليها كثير من المعلقين, و هي أن الخطاب الاستعماري ذاته ساهم أيضا في تشكيل الخطابات القومية التي نشأت في الأساس لمجابهة هذا الاستعمار , فعملية التأريخ التي أخذت بالمنظور القومي في كتابة التاريخ قد تشربت العديد من المسلمات المتضمنة في كتب التاريخ الاستعمارية و التي كامن من المفترض أن ترفضها تلك التواريخ القومية, و يضرب لذلك مثلا الهند التي لم تتمكن من استعادة قدرتها على فهم ماضيها و حاضرها بعيدا عن هذا الخطاب الاستعماري, و عن فلسطين فيقول إن ما يلفت الانتباه هو غياب تاريخ فلسطيني للماضي, أي تاريخ مكتوب من منظور فلسطيني, من الطبيعي أن يكون ذلك المنظور الفلسطيني قد ركز على الفترة الحديثة في صراعه مع الصهيونية لإثبات هويته القومية و للحصول على دولة خاصة به, غير أن التاريخ القديم على ما نعتقد قد تم التنازل عنه لمصلحة الغرب و دولة إسرائيل الحديثة, و أن استملاك الماضي هو جزء من سياسة الحاضر و يمكن تطبيق هذا المبدأ على جميع دول المعمورة, و من هنا يتبين كيف أصبح علم الآثار و التاريخ التوراتي بالغي الأهمية بالنسبة لدولة إسرائيل الحديثة, و أن هذا المزيج هو الذي أسكت التاريخ الفلسطيني بقوة, ففي دولة إسرائيل الحديثة يلعب علم الآثار دورا مهما في تأكيد الصلات بين سكان دخلاء و تاريخهم القديم, و بهذا فإنه يؤكد حق هؤلاء السكان الدخلاء في تلك الأرض, و أكبر مثل على اكتشاف و تأكيد الحاضر القومي من خلال الماضي السحيق يتمثل في اكتشاف المسادة, و الذي تم من خلاله إضفاء صفة رمزية على الدولة المنشأة حديثا في وجه الصعوبات الضخمة لإسرائيل و إمكانية استمرارها و بقاءها وسط محيط معاد, و يتلخص المغزى السياسي من وراء أسطورة المسادة في كونها موقع مراسم حلف اليمين السنوية للجيش الإسرائيلي, و من هذا النموذج يتضح كيف أن المواقف السياسية و الدينية توجه البحث التاريخي و تتحكم في نتائجه, و لقد أثبتت زروبافل بشكل مقنع كيف تطورت أسطورة المسادة من مجرد حادثة غامضة في التاريخ, أهملها التلمود و الآداب اليهودية منذ القرون الوسطى, و كيف أنه على الرغم من النقاش النقدي لما أورده يوسيفيوس في عرضه لقصة حصار المسادة و سقوطها, فإن قصة المسادة لم تصبح مركز اهتمام الباحثين إلا في القرن التاسع عشر عندما ظهرت الحركة الصهيونية, و من هنا يستنتج أن عمليات التنقيب هي عمل وطني لا يختلف عما حصل في أماكن أخرى حينما سخر علم الآثار لترويج "أيديولوجية وطنية معينة", إن ربط يادين مكتشف المسادة بين الماضي السحيق و الحاضر السياسي و إشارته إلى سلسلة البطولات في تاريخ شعبه هو أسلوب بلاغي في خطاب الدراسات التوراتية, و قد لعب دورا حاسما في إسكات التاريخ الفلسطيني, و هكذا كان البحث عن الآثار في التلال الواقعة وسط فلسطين خلال فترة الانتقال بين العصر البرونزي المتأخر و أوائل العصر الحديدي, و المغزى الحقيقي لكل ذلك هو البحث عن هوية قومية و زيادة كبرياء الشعوب و الجماعات العرقية و رفع معنوياتها, و نتيجة لذلك تصبح تلالا كنعانية كبيرة غير ذات فائدة في فهم عملية " الاستيطان الإسرائيلي" الذي يصبح هو مغزى كل عمليات التنقيب عن الآثار.
و تحت عنوان تخيل إسرائيل القديمة و سياستها في الماضي يقول لا يعدو تصور تاريخ إسرائيل القديم كما ورد في القسم الأكبر من التوراة العبرية أن يكون قصة خيالية, و هو بمنزلة اختلاق للتاريخ شأنه شأن معظم رؤى الماضي التي كونتها المجتمعات القديمة بل و الحديثة, و هنا يتساءل ما الغرض الذي يؤديه تصور معين للماضي, و ما التصورات الممكنة الأخرى للماضي التي ينكرها تصور معين؟
و على الرغم من أن إقحام السياسة في ميدان كتابة تاريخ إسرائيل القديم لم يثر جدلا طويلا, و على الرغم من بعض التحولات المهمة خلال العقد الأخير فيما يتعلق بالمشاكل التي تعترض إعادة بناء تاريخ إسرائيل القديم, فإن الرؤية التي لا تزال مهيمنة هي أن التراث اليهودي يوفر القاعدة و المصدر الأساسي للمؤرخ في شؤون إسرائيل, و يظل العهد القديم كتاب تاريخ رغم التركيب المراوغ للسرد التوراتي, فهو يظل مسيطرا على الباحثين في تاريخ إسرائيل, و هنا يحاول الكاتب أن يجري سردا لمختلف الآراء لدى المؤرخين و المفكرين الأوربيين حول أهمية التاريخ و الماضي و دور الفردية و التنوير و النظر إلى الدين و الحداثة و اتجاه الزمان و الغائية, و كل ذلك ساهم في إيجاد ما يسمى" بالقصة الأصل", و هي قصة متأثرة بالدراسات التوراتية في القرنين التاسع عشر و العشرين, و هي "قصة أصل" اختلقت إسرائيل القديمة على هيئة الدولة القومية في الغرب, و هي في الوقت نفسه تسكت أي روايات أخرى محتملة لتاريخ فلسطين القديم, تخفي الموضوعية المفترضة لهذه الروايات الانحياز السياسي للروايات التوراتية, و يتم إعادة صياغة للماضي تتماشى مع هذه الروايات, و الاختلاف بين تصورات الماضي بالنسبة للمجتمعات القديمة و الحديثة يعرض على شكل ثنائية الأسطورة و التاريخ, و هي ثنائية زائفة تساعد على تأكيد ثقة القارئ في موضوعية المؤرخ الحديث في مقابل ثنائية الأسطورة, و يتساءل أين تنتهي الأسطورة و يبدأ التاريخ ؟ فيما يتعلق بالتوراة العبرية لا يوجد تفريق واضح بين سفر التكوين و ما يليه حتى نهاية الكتاب المقدس أو حتى نهاية جزء الملوك الثاني, و ينقل عن هيوز في دراسته حول التسلسل الزمني التوراتي في سفر القضاة و صموئيل بأنه خيال محض اخترعه اليهود في المنفى لكي يمدونا بمشروع تاريخ عمره ألف سنة يغطي وجود إسرائيل في أرض كنعان, و هكذا لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية لتزويدنا بتسلسل تاريخ إسرائيل, و هنا لا تقل الأسطورة عن التاريخ في كونها إدراكا للماضي يرتبط ارتباطا وثيقا بالسياق الذي وجد فيه و صمم من أجل تعزيز أيديولوجية معينة, و هنا يمكن أعادة تشكيل التراث في سياقات متعددة مثلما يمكن اختراعه من جديد, و هنا يسرد آراء المؤرخين و يناقشهم خاصة فيما يرد عن سفر القضاة كأحد طرق الاستحواذ على الماضي و إعادة تشكيله,مثل تحليلات نوت و سمند و ديتريش و كروس و نلسون و ميز.
و تحت عنوان تواريخ متصدعة يقول: كانت إحدى النتائج الأساسية للبحث التاريخي إيذانه بموت " التاريخ التوراتي" الذي يتم استبداله بشكل تدريجي بالاعتراف بالتاريخ الفلسطيني كموضوع قائم بذاته, و هو فهم لتاريخ المنطقة يزداد ابتعادا و انفصالا عن الدراسات التوراتية, إن تاريخا للمنطقة يهتم بتواريخ البيئات الصغيرة و تحتل فيه إسرائيل و يهودا مكانة مهمة دون أن تكون قطعا العامل المهيمن وحده على التاريخ هو ما ينبغي أن يكونه مثل هذا التاريخ, و يصف أعمال ليكة و الستروم و كيث وايتلام" و المؤلف ينقد نفسه" و فنكلشتاين إنها إن كانت علمتنا شيئا فإنما هو أن جميع افتراضاتنا لم تكن جدية بما فيه الكفاية, و معظم هذه الدراسات مضللة لأنها تصور للماضي تخيلته بعض عقول الكتاب "التوراتيين" و واصل الأخذ به "مؤرخو التوراة" المحدثون, و هو يتوارى تحت عباءة العمل المحايد.
الفصل الثاني: إنكار المكان و الزمان على التاريخ الفلسطيني
إن مفهومي المكان و الزمان في غاية الأهمية للمؤرخ, و لكنهما مألوفان لديه لدرجة أنه لا يكاد يرى أنهما يستحقان أي بحث مفصل, و كثيرا ما يقال أن التسلسل الزمني هو العمود الفقري للكتابة التاريخية, أما الحقائق المتعلقة بالمكان فهي بمنزلة المسرح الذي تؤدى عليه أحداث التاريخ, و لكن يجب التنبيه إلى أن دراسة مسألتي المكان و الزمان ليست أمرا يسيرا بالنسبة للمؤرخ بحيث يمكن المرور عليهما سريعا باعتبارهما مقدمة للعمل الذي ينوي دراسته, و المكان و الزمان هما محصلات اجتماعية, و مثل إعادة تكوين الماضي فهما مرتبطان بمفهومي الهوية و السلطة, و هذان المفهومان هما تماما "كالماضي" بناءات فكرية كثيرا ما يتم تداولها بوصفها جزءا من خطاب خفي (غير معلن) في تشكيل الهوية الاجتماعية , في الوقت نفسه الذي يتم فيه إنكار الهويات المنافسة التي تطالب بالزمان و المكان نفسهما, و في السياق الراهن لا يمكننا أن نفصل هذه الآراء عن الصراع الحالي بين إسرائيل المعاصرة و الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال داخل إسرائيل و أولئك الموجودين في المنفى , و خطاب الدراسات التوراتية استمر في إنكار المكان و الزمان على الفلسطينيين, و هو خطاب قد أعطى الزمان و بخاصة من العصر البرونزي المتأخر إلى العصر الحديدي و كذلك المكان الجغرافي لإسرائيل فقط, أما الكنعانيون و الفلسطينيون أو أي فئة أخرى من سكان البلاد الأصليين فيمكن لها أن تعيش في هذا المكان و الزمان حسب الخطاب التوراتي و الشروط التي تمليها إسرائيل فقط.
إنكار المكان على الفلسطينيين
يقول المؤلف إن مفهوم المكان في المجال التاريخي ليس أكثر جمودا و ثباتا من مفهوم الزمان الذي يعتبر في صميم البحث التاريخي, فقد أصبح من المسلمات أن تعريف المكان و السيطرة عليه كانا من العوامل الأساسية في تحديد أوروبا لذاتها و"للآخر", و هو الوجه المضاد لما تراه أوروبا في نفسها من عقلانية و قوة و ثبات, فاستعمال تعبير " فلسطين" هو بالضرورة مسألة ذات علاقة وطيدة بالخطاب الاستشراقي نفسه و تكوينه لصورة الماضي, أما الدراسات التوراتية فلم تبق في معزل عن هذه الأفكار الإستشراقية و تكوينها للشرق بما فيه فلسطين على أنها " الآخر" الضروري لأوروبا, و يمكن تتبع ذلك في عدد من الأعمال, و هذا يتطلب عملية اختيار للمصطلحات الخاصة بالمنطقة و ما تتضمن من معاني, سواء بشكل ضمني أو صريح, و هنا يواجه المؤرخ ليس وصف حدود المكان و لكن تسمية هذا المكان, فمسألة فلسطين و التاريخ الفلسطيني في مقابل إسرائيل و التاريخ الإسرائيلي لا يمكن فصلها عن الادعاءات المعاصرة, و كذلك الادعاءات المضادة المتعلقة بالماضي, و توظف الدراسات التوراتية عددا مذهلا من التعبيرات للدلالة على المنطقة: الأرض المقدسة, أرض التوراة, ارتس إسرائيل, أرض إسرائيل, إسرائيل, يهودا, كنعان, شرق الأردن, فلسطين السورية, فلسطين, الشرق, و على الرغم من أن البحث العلمي الغربي فد استعمل تعبير فلسطين بشكل مستمر فإن هذا التعبير قد جرد من أي معنى حقيقي في خضم البحث عن تاريخ إسرائيل القديم, و يمكن تتبع المضامين السياسية للمصطلحات و التعبيرات المستعملة للدلالة على هذه المنطقة من خلال بعض الأعمال الكلاسيكية لمسألة التاريخ الجغرافي, مثل آدم سميث" الجغرافيا التاريخية للأرض المقدسة", و في عنوان فرعي ذي دلالات مهمة" ما يتعلق بتاريخ إسرائيل و التاريخ المبكر للكنيسة", يقول سميث "يرغب دارسو التوراة في معرفة الخلفية التاريخية, كما يرغبون في الشعور بالجو الذي دارت فيه الأحداث", ففلسطين لا تملك تاريخا خاصا بها و لكن " متحف لتاريخ الكنيسة", و ينقل عن نوت" لم تكن إسرائيل في أي وقت من الأوقات متجانسة و لم يقطنها شعب متجانس قط, و كانت هناك بالكاد في كل وقت من تاريخها مجموعة سياسية متوافقة مع الأرض التي تقطنها, و لذلك فإن تعبير أرض إسرائيل قد يكون وصفا مرنا للمناطق التي استوطنت فيها هذه القبائل الإسرائيلية", و من هنا أدرج نوت تاريخ فلسطين تحت بند إسرائيل, و ينقل عن هيرمان " تاريخ إسرائيل مرتبط عضويا بالأرض ذاتها... بإمكاننا أن نرى بدايات إسرائيل الأولى في شمال سوريا و العراق القديمة من جهة, و في شمال غرب مصر من جهة أخرى,قبل أن تجد إسرائيل وطنا في فلسطين "أرض الميعاد" و هي ملكها الخاص الذي ليس هو محل نزاع إطلاقا", و يلاحظ هنا أن فلسطين تصبح أرض الميعاد, و أنها ليست وطن للفلسطينيين, و يصبح مغزى كلمة وطن مضاعفا في ضوء استعمال هذا التعبير في وعد بلفور, و هذا المنهج متأصل في أعمال بعض دارسي التوراة و بخاصة الألمان و الأمريكان, و كان له تأثير قوي في أعمال التنقيب عن الآثار خلال هذا القرن العشرين, فينقل عن أولبرايت قوله" في غمرة الحماس للبحث الأثري يقع المرء أحيانا في إغراء تجاهل السبب الدائم لأي اهتمام خاص بفلسطين", و يستمر المؤلف في إيراد الكثير من عبارات المؤرخين الذين يستمرون في نهج إخفاء فلسطين لصالح إسرائيل.
إنكار الزمان على التاريخ الفلسطيني
إن مفهوم الزمان مثله مثل المكان, هو مفهوم سياسي و هو أداة القوة التي تستخدمها الأيديولوجيا, و قد تم استغلاله من قبل الدراسات التوراتية لإنكار أية حقيقة زمنية للتاريخ الفلسطيني, و يشير فابيان إلى القبول الشائع للتصوير الإمبريالي للمكان على أنه في معظم الوقت" أرض خالية" ينبغي احتلالها لخير الإنسانية, و إذا كانت أوروبا هي موضوع التاريخ برمته فإن إسرائيل منبع هذا التاريخ و هي منبع الحضارة الغربية, و لأجل ذلك يتم مصادرة التاريخ الفلسطيني لصالح إسرائيل و أوروبا.
الفصل الثالث: اختلاق إسرائيل القديمة
و يتكلم في هذا الفصل عن نظريات ثلاث يفسر بها أصحابها اختلاق إسرائيل, حيث تطالب جميعها بالزمان و المكان الفلسطينيين.إنه دائما تاريخ إسرائيل أيا كان فهمنا و إدراكنا لإسرائيل هذه, و يمثل النظرية الأولى الألماني آلت و نوت و ويبرت, و لقد ظلت مهيمنة طيلة ثلاثة أرباع القرن من عام 1925, و تتمثل في الهجرة السلمية إلى فلسطين من قبل المستوطنين, تماما مثلما هاجر الإسرائيليون الأوائل إلى فلسطين, فهي أرض بلا شعب تنتظر من يسكنها, و إن كان بها أحد فهم متفرقون و متخلفون لا يستطيعون بوعيهم الضعيف بناء وطن قومي, و هذا تفسير يريد به أصحابه إنشاء إسرائيل مرتين, مرة في العصر الحديدي في القرن الثاني عشر ق. م, و مرة أخرى في العصر الحديث,إنه ماض متخيل يحمل شبها كبيرا بالأحداث التي تشهدها فلسطين منذ العشرينات, أما النظرية الثانية و التي أنتجتها مدارس البحث العلمي الأمريكية بقيادة وليام فوكسويل أولبرايت, و هي نظرية يعتبرها أصحابها نقيضا لنظرية آلت, إذ ركز أولبرايت اهتمامه على المكتشفات الأثرية الحديثة لتدعيم تراث الدراسات التوراتية كما جاء في سفر يشوع, لإثبات وجود حملة عسكرية المفترض أنها قضت على المجتمعات السكانية للفلسطينيين في تجمعاتهم المدنية, لقد كان اختلاق أولبرايت لإسرائيل القديمة ذا تأثير بالغ الخطورة في الدراسات التوراتية في القرن العشرين, و قد روج أفكاره هذه عدد من الخريجين الذين تبوأوا مراكز مرموقة في الحياة الأكاديمية في جامعات الولايات المتحدة, و اللافت للنظر أن كثيرا من أراء أولبرايت و بحثه تكونت خلال فترة الصراع السياسي في فلسطين في العقود الأول من القرن العشرين, و يذكرنا وصف أولبرايت بالتفوق الديموغرافي الذي رافق تدفق المهاجرين الصهاينة إلى فلسطين و اندماج السكان اليهود المحليين, بينما السكان المحليون(عرب فلسطين) تمت السيطرة عليهم بواسطة المعاهدات أو الغزو أو الاندماج التدريجي, و هنا لم يثر أحد قضية ما إذا كان هناك فعلا حق لإسرائيل في هذه الأرض في الحالتين(قديما و حديثا), و كذلك الأمر بالنسبة لحقوق السكان الأصليين الذين جردوا من ممتلكاتهم, و الأخطر كما يقول المؤلف أن أولبرايت حاول بشكل مخيف تبرير إبادة هذا الشعب و يقتطف من أولبرايت " و إنه لشيء ذو مغزى أننا بعد الطور الأول من الغزو الإسرائيلي لا نسمع عن تدمير سكان المدن الكنعانية, و لكن نسمع عن طردهم فقط, أو فرض الجزية عليهم, و من وجهة النظر غير المنحازة لفلسفة التاريخ, يبدو من الضروري في أحيان كثيرة اختفاء شعب ذي مستوى متدن إلى حد بعيد ليحل محله شعب ذو صفات متفوقة", و هذا التبرير لإبادة الشعب الفلسطيني كما نجده لدى أحد أهم الباحثين التوراتيين في القرن العشرين هو شيء بالغ الخطورة لسببين, الأول هو أنه يعبر بشكل مذهل عن عنصرية سافرة, و الثاني الأكثر خطورة أن أحدا من الباحثين التوراتيين لم يعلق عليها في تقييم أعمال أولبرايت, و يتطابق وصف أولبرايت للكنعانيين بأنهم حسيّون و غير أخلاقيين مع وصف المستشرقين "للآخر" على أنه النقيض التام للإنسان الغربي العاقل و المثقف, إنه وصف يؤدي إلى الحط من إنسانية الشعوب المحلية مما يؤدي إلى قبول فكرة إبادة هذه الشعوب مثلما كان الحال مع سكان أمريكا الأصليين.
أما النظرية الثالثة في إسكات التاريخ الفلسطيني فيمثلها كل من جورج مندنهول صاحب التفسير اللاهوتي, و جونافيلد صاحب التفسير الماركسي, فمندنهول لا يختلف كثيرا عن أولبرايت و لكنه اختلق إسرائيل بالفعل على صورة الغرب المسيحي مما ساهم في إسكات التاريخ الفلسطيني, و لقد كانت افتراضات مندنهول الدينية هي المحرك الأساسي لتحليلاته التاريخية, و هذا المنهج اللاهوتي يؤكد خصوصية إسرائيل المبنية على عقيدتها, تلك العقيدة هي أساس الحضارة الغربية و على اعتبار أن إسرائيل و الغرب قاما على فكرة التوحيد, و هنا يتم التركيز على أن الأرض هي ملك إلهي و على هذا فهي هدية إلهية.
أما غوتافيلد الماركسي الذي كان يعارض حرب فيتنام يتنكر تماما لحق الفلسطينيين في الكفاح لتقرير المصير, فهو يتكلم عن نظرية الثورة الفلاحية لبدايات إسرائيل, و تتلخص في أن العبيد السابقين في مصر الذين أصبحوا مستقلين صاروا الآن موضع إعجاب أقنان و فلاحي كنعان المتململين من أوضاعهم, و كانت العقيدة اليهودية تحتفل بحقيقة الخلاص من العبودية الاجتماعية, و بالتالي يتعاونون في التخلص من النظام المحلي المنحط, و لا يمكن التغيير إلا من خلال إسرائيل و أيديولوجيتها الدينية و السياسية الآتية من الخارج, يقول غوتافيلد في وصف يشبه وصف الحركة الصهيونية الحديثة "كان اليهود الذين أخذوا يندمجون متنوعين عرقيا و ثقافيا بشكل يدعو إلى الدهشة, و لكن كانت لهم تجارب اجتماعية و سياسية مشتركة و كانوا يشتركون في حياة اجتماعية".
الفصلان الرابع و الخامس:
يستمر في هذين الفصلين - كما في الفصل السابق – في توضيح فكرة اختلاق إسرائيل, و يورد و يناقش و يفند آراء معظم دارسي التوراة و المؤرخين الذين أرخوا لإسرائيل قديما و حديثا و الذين أضافوا عليها طابع المعجزة و الأسطورة, فينقل عن فون ردا مثلا " أنتج العصر الذهبي للمملكة العبرية أعمالا تاريخية أصيلة, لم يكن بمقدور أية حضارة في الشرق الأدنى القديم الإتيان بمثلها, حتى الإغريق لم يتمكنوا من الوصول إلى مثلها في ذروة تقدمهم في القرن الخامس", وهذا بالطبع يساق لإعطاء مبرر لقيام إسرائيل و إسكات فلسطين.
و في الفصل السادس: رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني, فيشير إلى أنه قد أخذ عدد متزايد من الباحثين عن إسرائيل يثير التساؤلات حول التفسيرات المستوحاة من التوراة للمعلومات الأثرية التي وفرتها الأعمال المسحية و الحفريات, و يقول المؤلف بأنه بالرغم من التغييب المتعمد للتاريخ الفلسطيني فإنه ينبغي الاعتراف به كموضوع قائم بذاته و كجزء من دراسة التاريخ و خطاب "الدراسات الحضارية" بحيث يعطى صوتا خاصا يمكنه من تحدي اختلاق إسرائيل القديمة و لكي يفند تاريخ فترة العنصر البرونزي المتأخر و أوائل العصر الحديدي.
و يقول عن هذا الاهتمام أنه لا يزال في بداياته الأولى و أن التاريخ الفلسطيني يحتاج إلى أن يخلق لنفسه فضاء حتى يتمكن من إنتاج روايته الخاصة للماضي, و بهذا يساعد في استعادة صوت السكان الأصليين الذي يتم إسكاته في خضم اختلاق إسرائيل القديمة, و أن انجاز هذه المهمة بجدية كافية هو وحده الذي سيجعل من الممكن انتزاع التاريخ الفلسطيني و تحريره من قبضة المصالح التي ساهمت في إسكاته طوال هذه المدة من الزمن.