بقلم / د.عاطف أبو سيف
ورد خبر في بعض المواقع منقول عن مصادر إسرائيلية يتحدث عن استهلاك الجيش الإسرائيلي في ثكناته لخضروات مصدرة من قطاع غزة. والخبر جاء – إن صح- ضمن ما قيل: تبرم بعض الجنود على ذلك. بل إن مواقع مختلفة نشرت صور الصناديق مليئة بالخضراوات – بزعم أنها من داخل مواقع الجيش- مطبوعا عليها أنها منتجة في غزة. لا يوجد الكثير في الخبر الذي مر مروراً بعناوين بارزة من باب أن غزة تطعم الجيش الإسرائيلي. وبالطبع فإن التغطية الإسرائيلية التي حاولت المواقع الفلسطينية النقل عنها حاولت إبراز الجانب الأخلاقي في النقاش بين الجنود الذين يرون فيما يفعله الجيش من ضرب لغزة وأكل خضرواتها تناقضاً كبيراً. إنه ذات الخطاب الكولونيالي الأخلاقي الذي يحاول أن يصور عملية القتل مثلاً على أنها انزياح إجباري في المعاير الأخلاقية، لأن رواية المستعمر لا تختلف باختلاف هويته.
عموماً ليس هذا باب القصيد في كل ذلك، ولكن وجب التنويه إلى ما يحتويه الخبر من مغالطات مُمأسسة على وعي كولونيالي، والأخطر منه مثلاً أن تقوم الصحافة المحلية، خاصة المواقع التي تهوى النشر حتى لو من المريخ دون تدقيق ودون إعمال للمهنية، ناهيك عن إعمال الحس الوطني، بنقل كل شيء دون رقابة. فلا يجوز بأي حال أن يتعرض القارئ المتابع للخطاب الأخلاقي الزائف للمحتل المستعمر. وهذه قضية أظن أنها بحاجة لنقاش موسع حتى نستفيق من حالة النقل الأعمى من الصحافة الإسرائيلية، لأنها تبهرنا.
لكن الملفت في الأمر هو كيف يمكن للبضائع الفلسطينية أن تصل للجيش الإسرائيلي وتصبح جزءاً من مادة إطعامه؟ يبدو الأمر مربكاً خاصة أن الأمر يتعلق بحالة اشتباك دائم بين الفلسطينيين بشكل عام والجيش الإسرائيلي ودولته، تكون غزة في الكثير من الأحيان بؤرة مشتعلة فيه. كما يمكن- مع التأكيد على حالة العمومية- أخذ حالة غزة الخاصة بعين الاعتبار مع العدوان المستمر المتواصل عليها والذي كان آخره عدوان 2014 وما نتج عنه من دمار وقتل وتشريد وما تلاه من تعطيل لعملية إعادة الإعمار ومواصلة الحصار المفرض على القطاع رغم اتفاقيات التهدئة التي تمت والتي أوقف بموجبها العدوان على غزة. طبعاً سيبدو مضحكاً للفلسطينيين في غزة الحديث عن تهدئة في ظل مواصلة إسرائيل قصفها لمواقع مختلفة في غزة واعتداءاتها الحدودية وتلك التي تتم في عمق العبر بحق الصيادين.
ما أرمى إليه هو نفس التناقض وإن كان بتبرير آخر الذي تحدث عنه التقرير الإسرائيلي من أن غزة التي يقوم الجيش الإسرائيلي بقتلها كل يوم ويواصل حصارها والاعتداء عليها تقوم بتصدير الخضراوات من التربة التي تحاول القنابل والصواريخ التي تطلقها طائرات الجنود أن تحولها عقيمة. مفارقة بحاجة لتأمل. إنها ليست المفارقة الأخلاقية المزعومة التي قد يتحدث فيها المستعمر ليكشف عن طيبة القلب الغائبة في معمعان الحروب، زيفاً. مفارقة تنبع من غياب المنطق في حدوثها.
هل يستقيم هذا الأمر؟ بالطبع لا.
لاحظوا أن خطاب المقاطعة ضد البضائع الإسرائيلية وجهه الأقوى هو أن يقوم العالم بمقاطعة إسرائيل وجيشها ومؤسسات بحثها العلمي التي تعزز الاحتلال، وبالتالي فإن جزءاً كبيراً من الخطاب والنشاطات التي تتأسس عليه تعتمد على عدم قيام دول العالم بتصدير بضائع للجيش الإسرائيلي من معدات أو خبرات أو أموال يمكن لها أن تستخدم في العدوان على الشعب الفلسطيني. مظاهرات أمام مصانع للأسلحة ومصانع للمعدات الثقيلة، كما أمام مباني الجامعات والنقابات والاتحادات التي تتعاون مع مؤسسات إسرائيلية. حركة نشطة أقلقت إسرائيل ووصل بها الأمر إلى حد تجريمها ومحاولتها الضغط عبر أنصارها على بعض الدول الأوربية لتجريمها وربطها ومساواتها بمعاداة السامية.
تخيلوا موقف هؤلاء الشبان والشابات من أنصار الشعب الفلسطيني من مواطني دول العالم الذين بعضهم قد لا يكون قد رأى فلسطين أو عرف فلسطينياً في حياته، لكنه ينحاز لقضية أخلاقية بامتياز، حين يعرفون أن الفلسطينيين يصدرون الخضار للجيش الإسرائيلي حتى يتمكن من إطعام جنوده فيتمكنوا من قصف غزة بشكل جيد. وفيما هم يهاجمون المصانع التي تصدر البضائع لإسرائيل، وقد يعتقل بعضهم، فإن الفلسطينيين يصدرون الطعام للجيش الإسرائيلي.
في حين أن جزءاً كبيراً من المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل تعتمد على مقاطعة البضائع الإسرائيلية سواء من قبل دول العالم أو من المواطن الفلسطيني فإن غزة تبدو استثناءً في ذلك. حيث إن البضائع الإسرائيلية تغزو الأسواق في غزة دون رقابة منافسة المنتج الوطني الذي يكاد أن يختفي.
الخطاب الفلسطيني للعالم الخارجي يقوم على ضرورة أن يتوقف العالم عن شراء البضائع الإسرائيلية – ثمة تشديد على تلك المصنعة في المستوطنات- لأن شراء البضائع يعني دعم إسرائيل وبالتالي دعم جيشها. ناهيك عن مقاطعة بضائع المستوطنات وما تعنيه من دعم لمصادرة الأرض واستغلالها. ما يعرف بحركة المقاطعة تعتمد على نشطاء من أنصار الشعب الفلسطيني، يربطون الليل بالنهار وهم يراقبون ويسجلون ويوثقون ويتحركون في كل اتجاه من أجل زيادة الضغط على المستوردين لوقف استيراد البضائع الإسرائيلية.
الشق الثاني في ذلك هو مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في الأسواق الفلسطينية في الضفة الغربية وهي حركة نشطة يقوم عليها شبان وشابات يفتشون المحلات ويصادرون بعد محاولة الإقناع ما يقع في المحلات من بضاعة إسرائيلية.
تبدو غزة خارج هذا الحراك. لا يجب أن تكون مقولة فك الحصار بأي ثمن هي منطق تصرفنا، لأن الحصار لا يمكن أن يُفك فيما نحن نهدم مقومات المقاطعة التي يحاول أنصار الشعب الفلسطيني في الخارج مساندته بما يقوم به في الداخل، والأمر ذاته ينسحب على تصدير البضائع الذي يجب ألا يتم دون رقابة حتى نكون صادقين مع أنفسنا.