شمس نيوز/ تمام محسن
في أحد صباحات شهر يناير البادرة، ارتدت الحاجة حليمة خداش ثوبها المطرز بالأحمر، وتجهزت لموعد طال انتظاره إلى ثمانية وسبعين عامًا.
كانت على موعد مع بحر الرملة، وقريتها بيت نبالا (قضاء الرملة) التي هُجرت منها حين كانت صبية في الثالثة عشر من عمرها.
كان سؤال عابر فجر فكرة اللقاء مع البحر في رأس الكاتب زياد خداش ابن أخيها، ويقول "سألتها: متى آخر مرة زورتي بيت نبالا؟ فقالت جملة أثارت استغرابي " أنها لم تزر البلد منذ هجرت منها".
والحاجة حليمة واحدة من آلاف الفلسطينيين الذين هجروا قسرًا من قريتهم بيت نبالا، عام 1948 بعد استيلاء العصابات الصهيونية عليها وطرد سكانها الأصليين.
بقي إجابة العمة الصادمة عالقة في وجدان زياد، فقرر أخذها إلى قريتها بالتنسيق مع مؤسسة " ذاكرات" المهتمة بتأمين زيارات اللاجئين إلى مدنهم وقراهم المحتلة.
وفي الساعة الثامنة، انطلقت السيارة تحمل حليمة وعجوزين أخريين وابن أخيها زياد وصديقه. من مخيم الجلزون شمال مدينة رام الله، سارت تنهب الطريق نحو معبر قلنديا، ثم إلى الرملة حيث بيت نبالا والبحر.
بعد نحو الساعتين كانت الحاجة حليمة أمام البحر. خلعت حذاءها وبحذر يفرضه ثقل سنون العمر، ألقت بنفسها نحو البحر وتركته يداعب قدميها، ويسرق عقلها فضاؤه الواسع.
على الرغم من أن البحر لم يكن أكثر من ذكرى غامضة لدى العمة حليمة. لكنها تشعر بغصة بعد عودتها إلى الجلزون بعيدًا جدًا عن البحر.
إذ كانت حينها طفلة في الرابعة أو الخامسة من العمر حين رأت بريقًا في الأفق، فقالت لأمها التي كانت تخضع للعلاج في يافا "في شي بلمع" فردت والدتها إنه البحر، فسارعت حليمة الطفلة لتطلب منها أن تأخذها إلى هناك. وتم لها ذلك.
وبعد ثمانية عقود تعانق مرة أخرى البحر، في زيارة ستترك أثرًا كبيرًا عليها. ويقول زياد " أصبحت تردد بعد الزيادة أنا مريضة ولا أستطيع النوم".
ويضيف "لازالت مصدومة وحزينة تشعر باللوعة لأنها عايشة بمكان لا يشبه قريتها" المسلوبة.
في بيت نبالا، تفتقت ذاكرة الحاجة حليمة واستدلت على أطلال بيتها من القبور الأربعة والبئر التي نجت من الطمس والتهويد وظلت شاهدة على أصحاب الأرض الأصليين.
يخشى زياد على الذاكرة الفلسطينية من النسيان، داعيًا إلى تمكين جيل النكبة من زيارات بلداتهم وقراهم التي هجر منها؛ "لكي نسمع القصص الحقيقية من أصحابها" يقول زياد.
قبل أن تقفل الحاجة حليمة عائدة إلى مخيم الجلزون، سألت ابن أخيه زياد: البحر بخلص يا عمتي ؟، فيرد بدوره: لا طبعا يا عمتي البحر يبقى دائما.. لكنها لم تقنع بإجابته وأبدت حزنًا وقالت "خايف يخلص قبل ما ارجعله".
فيطمئنها زياد مرة أخر: البحر هو البلاد يا عمتي والبلاد ما بتخلص.