بقلم: حسين حجازي
ما هي القوة الأكثر وزنًا وتأثيرًا في تقرير المعادلة او الحسابات النهائية في تحديد مصير القدس؟ هل هي كنيسة القيامة وقبل ذلك الى جوارها المسجد الاقصى، أم تصريح دونالد ترامب؟ والجواب واضح، إذ قيل مرة وفي وقت مبكر ان بن غوريون عارض أو لم يشأ احتلال القدس الشرقية، وقال محذرًا أصحاب الرؤوس الحامية إن إسرائيل لا تستطيع أن تحمل المسيحية والإسلام على ظهرها أي مكة والفاتيكان معًا. وتساءلنا بسخرية مرة: هل تملك إسرائيل كتفي هرقل البطل الإغريقي الأكثر شهرة في الأسطورة اليونانية؟ وما زال مضيق جبل طارق بين أوروبا وأفريقيا يسمى بأعمدة هرقل.
وفي التاريخ أن تشرشل وروزفلت اعترضا على ضم ستالين في محادثات يالطا في بولندا المسيحية الكاثوليكية، وقالا محذرين ستالين "إن البابا يزعل" فما كان من ستالين إلا أن أجابهما بصورة مفحمة بطرحه السؤال الشهير "ولكن كم دبابة أو فرقة عسكرية يملك البابا؟"، فكم دبابة أو فرقة عسكرية يملك المسيحيون والفلسطينيون وإخوانهم المسلمون في القدس؟ والجواب صفر.
وكنت في وارسو عاصمة بولندا في أواسط الثمانينات في زمن تنصيب البابا لكنيسة روما من أصل بولندي، وكانت إرهاصات او رياح الثورة القادمة على إرث ستالين والامبراطورية السوفياتية تشتم وتهب في كل مكان، خصوصًا في أواسط الانتلجنسية أو النخبة المثقفة في بولندا، وكنت تستطيع أن تلمس ذلك من السخرية الهازئة التي كان البولنديون يصفون المبنى الحكومي أو لعله الحزبي الضخم، الذي بني وسط المدينة في عهد ستالين كتعبير عن قوة ورسوخ السيطرة السوفياتية.
وهكذا بعد سنوات قلائل في العام 1989 سوف تجتاح بولندا وأوروبا الشرقية ما يشبه عملية الدومينو، في الثورة على ما بقي من السيطرة الستالينية التي حدثت في يالطا. ولكن قبل ذلك كان المحرك الأقوى الذي دفع إلى هذا الحراك إنما هو اعتداد البولنديين بأنفسهم وارثهم الخاص، حيث كان يبدو لأي مراقب في ثمانينات القرن الماضي مدى قوة الكنيسة الكاثوليكية، ومقابل السخرية من الستالينية التي اعتبروها صفحة شاذة في تاريخهم.
كان اعتدادهم واضحًا بالعالم البولندي الشهير كوبرنكس والعازف البولندي العظيم دوليا شوبان الذي توازي شهرته شهرة موزارت، ومعزوفاته على البيانو التي تمجد الحنين إلى الوطن وقوة الانتماء إليه، في المقطوعات المؤثرة ما زالت ملهمة للمنفيين او اللاجئين والتي تسمى "البولونيزيز" أي البولنديات.
وقد يبدو الآن أن خطًا واصلًا بين النزعة الثورية التي اجتاحت وعي البولنديين في ثمانينات القرن الماضي، وبين الأزمة التي شهدتها العلاقة بين بولندا واسرائيل، على خلفية ما يبدو أنه محاولة من البولنديين التخلص مرة واحدة وإلى الأبد من ارث اتهامهم بالمسؤولية إلى جانب النازي في التسبب بالمحرقة اليهودية في اوشفتس أو ما يسمى الهولوكوست، باعتبار أن يهودًا كما يقول البولنديون شاركوا هم أيضًا في التعامل مع النازي ضد شعبهم، وبالتالي لم يعودوا يقبلون استمرار اتهامهم بهذا العار. وذهب البولنديون حدا في تحدي الخطاب الاسرائيلي الى اعتبار ذلك قانونًا.
ويبلغ عدد الطوائف المسيحية في القدس ثلاث عشرة طائفة تعكس التنوع الطائفي المسيحي حول العالم، باستثناء المسيحيين الصهاينة الذين يقال أم دونالد ترامب في اعترافه المشار إليه أن القدس عاصمة لإسرائيل، كان يحاكي موقفهم الذي يعتبر شاذًا من بين هذا التوافق أو الإجماع المسيحي حول العالم، والذي يمثله المسيحيون في القدس، وينظر إلى إسرائيل كقوة احتلال في المدينة.
وها نحن شهود للمرة الثانية منذ تموز الماضي على هذا السجال الفريد والنادر الذي يحدث أمامنا للمرة الثانية على التوالي، في اختبار القوة بين الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس وبين قوة الاحتلال. وها نحن نشهد التراجع الاسرائيلي مرتين أمام صلوات المسلمين على أبواب المسجد الأقصى بعد إن قرروا المواجهة، وقبل ايام حين قرر مسيحيو القدس إغلاق كنيسة القيامة. وما كان لإسرائيل ورئيس حكومتها المتورط حتى قمة رأسه في قضايا التحقيق معه بتهم الفساد، أن يحتمل غضب بابا روما ومسيحيي العالم لإغلاق أم الكنائس ثلاثة أيام. ولقد أقام مسيحيو فلسطين ومسلمو فلسطين الصلاة مرة أُخرى معًا وسويًا أمام كنيسة القيامة، فهنا المسيح قام وهنا على هذه البقعة المقدسة من الأرض لعله خاطب اتباعه واصفًا إياهم بـ "ملح الأرض"، أي الملح الذي يطيب الطعام.
واذ اختار ترامب الذي يحاول مكشوفًا عمل المستحيل والأخرق لتقديم الدعم والإنقاذ لنتنياهو عند هذه اللحظة الحرجة والمصيرية بالنسبة للرجل، حتى ولو تخلى عن المظهر الاحتفالي في نقل السفارة الى مبنى يليق بعظمة أميركا، مكتفيًا بهذا النقل الباهت الذي يختصر كل هذا الضجيج بمبنى صغير للقنصلية. فأي تأثير استقر في وعي العالم ووجدان الفلسطينيين الأسبوع الماضي، هيبة وقوة كنيسة القيامة أم قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؟ وهو قرار بات من الواضح أن الرئيس الأميركي يخضع بسببه الآن وفي هذه الأيام إلى ضغوط أوروبية عليه، ربما لإعادة تعديله أو تشذيبه لكي يمكن إلى جانب تعديلات اخرى موافقة الفلسطينيين على التسوية المقترحة.
ولكن الشيء المهم الآن ليس أن المسيحيين برهنوا عن حضورهم اللافت في معركة القدس وهم لم يكونوا في السابق غائبين، ولكن لعل هذه المواجهة او الاختبار الثاني والأخير كان أمرًا حاسمًا للتأكيد المرة الأخيرة وللأبد على هوية المدينة، والتي فشل الاحتلال على مدى خمسين عامًا في تغييرها.
صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"