بقلم: حيّان جابر
شهدنا وشهد العالم أجمع، الجموع الفلسطينية المحتشدة في غزة، من أجل إحياء ذكرى يوم الأرض، والمعبرة عن تمسّك الفلسطينيين بحق العودة وبجميع الأراضي الفلسطينية المحتلة. حشودٌ تغلبت على جميع الصعاب والمعوقات التي تواجهها في حياتها اليومية، نتيجة ظروف الحصار القاسية الذي يتحمل الاحتلال مسؤوليته الرئيسية، وإن شاركته للأسف أطراف عربية وفلسطينية. ما يفرض علينا أولا التعبير عن احترامنا وتقديرنا عزيمة الفلسطينيين في غزة، وإصرارهم وإقدامهم على تناسي جميع أوجه معاناتهم اليومية، من أجل التأكيد على الرسالة السياسية سابقة الذكر، ليعلنوا بتحرّكهم هذا عن قناعتنا بحتمية عودتنا، وحتمية استعادة حقوقنا المستلبة، وإن طال الزمان.
وبهدف الاستفادة الأنجع من هذا الإصرار الفلسطيني، علينا أولاً أن نحذّر من بعض المخادعين في دعوتهم إلى انتهاج النضال السلمي حالياً، خصوصاً من وجد في النضال السلمي مخرجاً لأزمته السياسية، ومدخلاً لاستعادة شرعيته المحلية والإقليمية والدولية، وهو ما يشكل واحدا من الأمور النادرة المشتركة بين سلطتي غزة ورام الله، فمن ناحية تعيش حركة حماس ظروفاً سياسية هي الأسوأ منذ تأسيسها، دفعتها إلى أن تدعو حركة فتح إلى استعادة سيطرتها على القطاع، بعد سنوات من الانقسام السياسي البغيض الذي أسفر عن واحدةٍ من أبشع صور النزاع الفلسطيني الداخلي الذي أدى إلى عدة قتلى من الجانبين، بمن فيهم بعض رموز المقاومة الفلسطينية من المطلوبين للاحتلال. وفي المقابل، تعيش سلطة رام الله تقريباً الظروف السياسية السيئة نفسها، بعدما كشفت الإدارة الأميركية وسلطة الاحتلال عن وجهها الحقيقي في الفترة الماضية، والمعبر عنها باللاءات الثلاث، لا لدولة فلسطينية مستقلة، لا لعودة اللاجئين، ولا للقدس عاصمة لدولة فلسطينية أو لحكم ذاتي فلسطيني، ليفرضوا على سلطة رام الله، وعلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فشل خياره السياسي الذي راهن عليه طويلاً، والمتمثل بخيار الدولتين، بعد أن جرّدوه عبر الاتفاقات الموقعة سابقاً من جميع خيارات الرد العملية وربما السياسية.
وبالتالي، دفع واقع الحركتين، أو السلطتين، الحالي، كلا منهما إلى دعوة الفلسطينيين إلى انتهاج النضال السلمي، من دون أن تبادر أي منهما إلى مصارحة الشعب الفلسطيني بأخطائها التي
أدت إلى ما نحن فيه اليوم، من قبيل خطأ الهرولة خلف المجتمع الدولي، والتعلق بأوهام حل الدولتين، وتقديم كل التنازلات الممكنة وغير الممكنة لصالح هذا الوهم، حتى تحولت السلطة إلى مجرّد أداة لحماية الاحتلال. أو فيما يتعلق بخطأ استغلال الأعمال العسكرية المقاومة لأغراض تعبوية تنظيمية أولاً، ومن ثم لأغراض السيطرة السياسية والسلطوية والميدانية على الواقع الفلسطيني، والتي تعبر عن وهم الاستقلال السياسي من دون الخضوع للاحتلال في ظل سيطرته على جميع مناحي الحياة، فكيف لنا أن نثق اليوم في أيٍّ منهما، بعد أن استغلتا قدراتهما العسكرية والمالية والسياسية، من أجل ترسيخ سيطرتهما السياسية، وبناء أمجاد شخصية ومراكمة ثروات مالية مشبوهة في كل منهما.
غير أننا بحاجة اليوم لتفعيل جميع أشكال النضال السلمي على قاعدة وطنية وجامعة، بعيداً عن أسباب ودوافع هذه الجهة أو تلك، لعدة أسباب. أولها فشل جميع القيادات الفلسطينية في العمل على تأسيس بنى نضالية فاعلة وقادرة على تحقيق النصر. وثانياً نتيجة اتفاق أوسلو من الناحية الأمنية الذي أدى إلى وضع جميع المدن والبلدات الفلسطينية تحت مجهر الاحتلال وقواته، فضلاً عن تحويله القوى الأمنية الفلسطينية إلى جدار أولي لحماية الاحتلال. وثالثاً نتيجة الوضع العربي المتدهور إجمالاً الذي يدور في فلك كبح جماح الحركات التحررية، أو في فلك استغلال شعارات المقاومة والتحرير واستثمارها، من أجل تحقيق مطامح ذاتية وفئوية. ورابعا وأخيراً وربما أهمها نظراً لحجم التخريب والتشويش المقصود وغير المقصود الذي طاول القضية الفلسطينية داخلياً وعربياً ودولياً، نتيجة مجمل ممارسات القيادات الفلسطينية، سواء الاستسلامية أو العنفية، لأغراض دعائية وتعبوية فقط.
وعليه، نحن بحاجة لبناء حركة المقاومة الشعبية، حركة وطنية وعربية وعالمية واضحة وشاملة، يستلزم منها التعريف بجميع حقوقنا المغتصبة الجماعية والفئوية، من الحق بإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية، إلى الحق في التنقل والحركة داخل فلسطين، ولجميع الفلسطينيين، اللاجئين منهم والمقيمين داخل فلسطين. ولتكن البداية بتحديد مطالب بديهية وبسيطة، يسهل تعبئة حركة المجتمع المدني العالمية حولها، مثل حق جميع فلسطينيي الداخل من غزة إلى الضفة مرورا بالقدس، بالحركة والتنقل الحر والآمن، فضلاً عن حقهم في ضمان حركة السلع والمواد منهم وإليهم، من دون شروط أو قيود يفرضها الاحتلال، وهو ما يفرض درجاتٍ عالية من التنسيق بين الحراك الفلسطيني داخل كامل فلسطين، أي لا يتم حصره في منطقة جغرافية واحدة كغزة، وبين الحراك الفلسطيني والعالمي خارج فلسطين من أجل
التعريف بجرائم الاحتلال اليومية والتاريخية، وفقاً لما يتيح الظرف والوضع. وهو ما يفرض علينا تجنب الانجرار خلف بعض الغايات الفئوية التي ترغب في تحويل النضال السلمي والتظاهرات الجماهيرية إلى شلال دماءٍ يفتح الباب لمرحلة جديدة من تصاعد الصراع عسكرياً، من دون امتلاكنا، ذاتياً أو إقليماً، ما يعيننا على تحقيق النصر، وإن كنا قادرين على إلحاق بعض الأذى والضرر بالاحتلال وأنصاره، فالغرض والهدف الحقيقي لأي نضال وطني، مهما كان شكله ووسيلته، هو تحقيق مجمل الأهداف الوطنية، والتي يستحيل تحقيقها بالبحث عن المصالح الفردية والفئوية والتنظيمية الضيقة، والتي عانينا منها كثيراً منذ بداية النضال الفلسطيني.
إذن، يمكننا أن ننطلق من تبسيط أهداف الحراك، وتوسيعه جغرافياً، وتنويعه عملياً بين النضال التظاهري مثلاً والنضال التعريفي بجرائم الاحتلال وبالقضية الفلسطينية، خطوة أولى وضرورية لتأسيس حركة المقاومة الشعبية الدائمة والمستمرة والممنهجة، ولإعادة الاعتبار لقضيتنا العادلة وإعادة التعريف بها، وبشرعية حقوقنا التاريخية وبمدى المظلومية التي فرضها علينا القانون الدولي والمجتمع الدولي كذلك. بدلاً من أن نحول مناسبة تاريخية، كإحياء يوم الأرض، أو ذكرى النكبة والنكسة، إلى تظاهرة حاشدة وضخمة تنتهي بنهاية اليوم، أو تستمر وتتصاعد عفوياً وعشوائياً وفقاً لطبيعة رد الاحتلال عليها وحدته. فقد اكتفينا من متاجرة القيادات الفلسطينية بجميع نضالات الشعب الفلسطيني، وحان الوقت لإعادة الاعتبار لنا ولقضيتنا، ولنضالنا الدائم والمستمر، من أجل انتزاع ثمار هذا النضال في الحقبة التاريخية المقبلة.
صحيفة العربي الجديد
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"