بقلم: حسين حجازي
بعد إقرار قانون القومية المتهور وحتى الأحمق، يبدو كما لو أن هذه النخبة الحاكمة في إسرائيل ولكن الطائشة، قررت إعلان الحرب أو المواجهة الصريحة ليس مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة ولكن مع الفلسطينيين ممن يسمون بالأقليات العربية داخل أراضي العام 1948، أي المسلمين والمسيحيين والدروز والتجمعات البدوية. وهي مواجهة قد يكون الفلسطينيون والإسرائيليون معًا بحاجة لتحاشي تجرع مرارة كأسها، إلى حدوث معجزة جيوسياسية أو متغيرات ما في إسرائيل نفسها أو في البيئة الإقليمية والدولية، من شأنها ان تؤدي إلى إعادة الوعي أو الصواب للطبقة الحاكمة في إسرائيل.
والذي سيحدث بعد الآن ان قانون قومية الدولة اليهودية سوف يوحد الفلسطينيين في الكتل الجغرافية الثلاث الضفة وغزة وأراضي العام 1948، وإذ بدا في الأيام القليلة الماضية أن طائفة الدروز الكريمة من بني معروف، كما لو أنها هي التي تتصدر او تقود هذا التحرك في مواجهة هذا التحول الأخير في إسرائيل، الذي يصل الى حد وصفه بالانقلاب.
إلا ان هذا الحراك ليس سوى دلالة على أن ثقل المواجهة والتصدي الفلسطيني الشامل بعد الآن ضد التطرف الشعبوي اليميني العنصري في إسرائيل، إنما سيكون في النطاق الجغرافي لأرض فلسطين التاريخية، وأن الفلسطينيين في الواقع يجدون في هذا التحرك الدرزي لإبطال القانون تعبيرًا عن موقفهم جميعًا، حتى لو كان هذا الحراك من داخل المؤسسة السياسية والقانونية الإسرائيلية، يمكن اعتباره أيضا كمحاولة من اصغر الممثلين للأقليات الطائفية العربية محاولة لإنقاذ إسرائيل الرعناء من نفسها.
فهل أدرك بنيامين نتنياهو يوم الخميس الماضي ما بدا ربما مفاجئًا لشعوره واعتقاده السابق عن هؤلاء الأغيار، بأنه أعتقد انه يمكن تذليل معارضتهم واستمالتهم عن طريق الرشوة بزيادة تراخيص البناء والميزانيات للمجالس المحلية للدروز. إنما يطرحون في الواقع مفهوم الشراكة إذا كان لسان الحال الدرزي هنا يطرح حجة أو موقفًا لا يمكن تجاوزه أو الالتفاف عليه. وهذه الحجة مفادها : أو لم نحارب ولدينا قتلى وتضحيات في حروب إسرائيل؟. ولذا فإننا نطالب ولن نقبل بأقل من اعتبارنا شركاءَ، أي مواطنين بنفس الدرجة.
ولطالما أحب مناصروه ومحبوه تلقيبه بالساحر تعبيرًا عن قدرته في كل مرة على الخروج من هذه الأزمات، وقد أحب هو شخصيًا ذلك. لكننا لا نعرف اليوم ولم يعد الصراع يقتصر على القائمة العربية المشتركة او أحمد الطيبي وحنين الزعبي وجمال زحالقة، وإنما على أشخاص أمثال أكرم حسون وزملائه الممثلين والنواب عن أحزاب صهيونية. كيف يمكن لبنيامين نتنياهو أن يلقي بعصاه السحرية حتى يُخرج إسرائيل وهو نفسه من هذه الورطة الشخصية؟ والتي يرى الكثيرون من الساسة الإسرائيليين أنه ما كان لها ضرورة أو حاجة. وحيث تشير المعلومات التي نشرتها الصحافة الإسرائيلية يوم الخميس على سبيل المثال إلى أن هناك إجماعًا لدى النواب الإسرائيليين ومن كافة الاتجاهات، للمطالبة إما بتعديل هذا القانون او إعادة تصحيحه او حتى بإلغائه، لكن نتنياهو ما زال يصر على بقائه أي القانون نفسه.
واذا استندنا أو رجعنا إلى الخبرة التاريخية هنا، فان ياسر عرفات في العام 1975 في لبنان تمكن من قلب الموازين الداخلية في لبنان والمنطقة، عبر تحالفه مع كمال جنبلاط زعيم أصغر الطوائف اللبنانية أي الدروز. لكن ممثلي هذه الطائفة كانوا دوما زعماء سياسيين تاريخيين اكبر من حدود انتمائهم الطائفي المحلي. ومن سورية الى لبنان وفلسطين الدول الثلاث التي تشكل مجتمعةً ما كان يُعرف بسورية الكبرى، يتركز الدروز جغرافيًا. ولكننا نعرف أن سلطان باشا الأطرش كان هو زعيم الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي عام 1925، وان كمال جنبلاط كان فلسطينيًا قوميًا عروبيًا وناصريًا أكثر من كونه زعيمًا درزيًا.
واستطرادًا ليحفظ الله وليد جنبلاط والذي حين نقل الزعامة الدرزية الى نجله تيمور قام بوضع الكوفية الفلسطينية على كتفيه، ولم يكن ثمة بلاغة يا وليد بيك اكبر من هذه الإشارة واللفتة الرمزية التي تمثلها الكوفية الفلسطينية، في التأكيد الأصيل على الإرث القومي الذي طالما تمسك به دروز لبنان. وفي السياق نفسه ليبارك الله روح شاعر فلسطين الكبير سميح القاسم الذي كان ومحمود درويش وتوفيق زياد وراشد حسين شعراء المقاومة الفلسطينية في وقت مبكر من الستينات، وكانت أشعارهم بمثابة البشارة عن قرب قيام الثورة، وقد كان.
هل يستطيعون اذًا أم أننا نراهن بشكل ضمني على إحداث الانقلاب الداخلي في التوازنات، لا الدروز وحدهم ولكن مجموع المكون الفلسطيني داخل إسرائيل؟. والواقع أن هذه دولة تبدو كما لو أنها في حالة انعطاف شاذة وغريبة. اذ بعد سبعين عامًا تحل ثورة الشواذ أو مثليي الجنس مكان الصراع القديم والأول بين العلمانيين والمتدينين، وبينما كان يمكن أن تتعايش هذه الأقليات العربية تحت هذا القناع أو الرداء الذي تحدثوا عنه فيما سمي بوثيقة الاستقلال، الذي ربط بين يهودية الدولة والديمقراطية، وهو مصطلح طالما فنّد تناقضه وتضليله عزمي بشارة. فان إقرار قانون قومية الدولة إنما جاء لازالة هذا الغطاء وتجريد الدولة من أي ادعاء حول ديمقراطيتها، وتالياً قدرتها على التعايش مع من كانوا يعتبرون مواطنيها.
واذ يحدث هذا التحول وسط حروب تُواصل الدولة القيام بها ضد الفلسطينيين في غزة والضفة، فانها تمهد اليوم لحرب أكبر مع شيعة لبنان وشيعة إيران انطلاقُا من سورية. واذ أعطت المملكة العربية السعودية الضوء الأخضر لمندوبها في الأمم المتحدة الرد علنًا وبطريقة قاسية ونادرة الحدوث على كلام المندوبة الأميركية، فان هذه الإشارة هي الأقوى على نهاية ما كان يصبو إليه نتنياهو وحليفه دونالد ترامب بإقامة ما يسمى بالتحالف الإسرائيلي العربي السني، اذ كان يدعي نتنياهو انه لم يتوقع حدوث مثل هذا التحول في حياته ليتبين لاحقاً أنه مجرد أوهام.
تبدو إسرائيل في هذا المشهد وعند هذه اللحظة كما لوأانها تعيد تعريف نفسها باعتبارها دولة قبيلة أو طائفة، ووفق هذا التعريف فان المنطق الطائفي أو القبلي أي التكور على الذات لا ينتج عنه أو يستدعي سوى العداء والحراب الطائفي مع الطوائف الأخرى، وهي الوصفة النموذجية للحرب الاهلية الداخلية. وبهذا المعنى فان ما هو متوقع انتقال ثقل المواجهة الى داخل اراضي العام 1948، وليس تكراراً او تماثلاً مع نماذج المواجهة في الضفة وغزة مع الاحتلال، وانما الحرب الاهلية التي لا تطرح على الفلسطينيين سوى سؤال وحيد: إما ان نكون او لا نكون.
والسؤال اليوم هل تستطيع إسرائيل احتمال الذهاب إلى مثل هذه المواجهة؟ التي تعيد طرح سؤال تقرير المصير باعتباره التحدي الكبير أمام كلا الشعبين؟ والجواب واضح، فإذا كان يبدو هذا التحول ارتدادًا أو نكوصًا إلى الخلف أي الى نقطة البداية ما قبل عام 1948، فان المتغير الكبير هو أن الفلسطينيين كان تعدادهم آنذاك لا يتجاوز المليون ومئتي ألف، هم اليوم من يمثلون التفوق الكمي أو الديمغرافي نحو سبعة ملايين تعدادهم في أرض فلسطين التاريخية من النهر الى البحر. وحيث الشعار أو المفهوم الذي يؤطر تظاهرهم كل يوم جمعة على السياج الفاصل في قطاع غزة هو حق العودة للاجئين، كما لو ان أحفاد الفلسطينيين قرروا البقاء على الأرض مهما كلف الثمن. وهذه هي المسألة، والصراع من أجل البقاء كان هو قصة الخلق الأولى.
صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"