بقلم د. وليد القططي
في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، وفي إحدى اللقاءات الاسبوعية مع الدكتور فتحي الشقاقي بمنزله، أعطاني كتاباً صغيراً بعنوان (حسن البنا.. الرجل القرآني) وكلفني بقراءته وعرض مُلخصه أمام المجموعة الاسبوع التالي، والكتاب من تأليف الصحفي والكاتب الأمريكي (روبير جاكسون)، وترجمة الأديب والمفكر المصري أنور الجندي، ومن إصدار دار المختار الإسلامي للنشر عام 1977. مؤخراً أعدت قراءة الكتاب وأقتبس منه النص التالي: "في فبراير سنة 1946 كنت في زيارة للقاهرة، وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتبت في النيويورك كرونيكل بالنص: زرت هذا الاسبوع رجلاً قد يُصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه اذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان. هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجلُ مُبكّراً.. وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر". ما تنبأ به جاكسون من ذهاب البنا مبكراً تحقق كما قال، ولكن التنبؤ الآخر بأن يصبح البنا من أبرز رجال التاريخ قد تحقق أيضاً، وهذا ما أكده رجلٌ بارز آخر في التاريخ كان مصيره الشهادة كمصير الإمام حسن البنا، وهو المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، والتأكيد جاء بعد ثلاثين عاماً من اغتيال البنا في الثاني عشر من فبراير عام 1949.
أكد ذلك المفكر الشهيد فتحي الشقاقي من خلال كتابه (الخميني..الحل الإسلامي والبديل)، الذي نشرته دار المختار الإسلامي للنشر عام 1979، ونص الإهداء "إلى رجُلي القرن.. الإمام الشهيد حسن البنا.. والإمام الثائر آية الله الخميني". أما مضمون الإهداء فأكبر من أن يُمكن اختصاره في هذا المقال، ولكن ما يُمكن ذكره أن الشقاقي قد اعتبرهما أهم رجلين أثرا في العالم الإسلامي في القرن العشرين بعد سقوط آخر نظام سياسي إسلامي ممثلاً بالخلافة العثمانية عام 1924، فقد أسس الإمام الشهيد حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 كمكون أساسي لحركة البعث والإحياء الإسلامي بعد سقوط الخلافة. وقد فجّر الإمام الثائر آية الله الخميني الثورة الإسلامية في إيران ضد النظام الملكي المستبد الفاسد التابع للاستعمار الصهيوأمريكي، فكان أول انتصار لحركة البعث والإحياء الإسلامي بعد سقوط الخلافة، أدى إلى نشأة الجمهورية الإسلامية في إيران، ولقد تنبه الشقاقي إلى أن يوم اغتيال البنا في الثاني عشر من نوفمبر هو نفس اليوم الذي انتصرت فيه الثورة في إيران بعد ثلاثين عاماً ما بين عامي 1949 – 1979، ولذلك ربط بين المناسبتين في ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا عام 1981 بقوله : "ويمر يوم استشهادك يا سيدي وكأنه على موعد كان المسلمون الفقراء في طهران يفجرون أعتى الأنظمة ويرسمون ملامح كون جديد... سيدي الإمام والأستاذ المرشد في يوم ما نعاك واحد من أخلص أبنائك قائلاً: إن رقاب ولاة الأمور آنذاك لا تصلح موطئاً لقدميك الطاهرتين... فماذا يبقى لنا غير أن نسكب في ذكرى استشهادك دمعة حزن جديدة ونحن نمضي فوق جسر العذاب والألم والمخاض في اتجاه تباشير الفرح العظيم الذي يلوح في الأُفق.
اعتبار الشقاقي للإمام الشهيد حسن البنا أحد رُجلي القرن العشرين، لم يكن جُزافاً بغير تُبصّر واضح ورؤية ثاقبة، فقد وصل إلى هذه القناعة بعد دراسة أدرك من خلالها دور البنا في عملية إحداث الإحياء والبعث الإسلامي خاصة في الوطن العربي، وجهوده لإعادة توجيه بوصلة الأمة نحو هويتها الثقافية وذاتها الإسلامية، وقضية تحرير فلسطين، وقدرته على تقديم خطاب إسلامي بسيط وواضح وشمولي وعالمي، وإدراكه لحتمية الحل الإسلامي. وتعزز إيمان الشقاقي بفكر البنا بعد قراءته لكتاب المفكر السوري توفيق الطيب (الحل الإسلامي ما بعد النكبتين)، فأدرك أن الهزيمة لم تكن مجرد هزيمة عسكرية؛ بل هزيمة فكر جوهرها عجز الفكر (الليبرالي والاشتراكي) الذي هيمن على العرب بين النكبتين عن مواجهة تحدي الفكر الغربي الحديث، لأنه يقف على نفس أرضه الفكرية، ولم تكن النكبتين إلاّ التجسيد الواقعي لهذه الهزيمة، فكان لا بد عقب النكبة الثانية (النكسة) أن تعود الأمة إلى أصالتها وإلى حسها الإسلامي ووعيها التاريخي، وكانت خُلاصة الكتاب تُشير إلى أن الإسلام وحده كدين وحضارة هو الشرط الوحيد لبقاء واستمرار الأمة وثقافتها في مواجهة التحدي الغربي الحديث، فرأى الشقاقي في فكر البنا الحل لتجاوز فكر الهزيمة، ولكنه أدرك أيضاً أن الأسئلة المطروحة أمام جيله وزمنه في الحقبة الإسرائيلية قد اختلفت عن تلك التي واجهها البنا، فبحث عن إجابات أُخرى لأسئلة العصر في أماكن أُخرى خاصة عند سيد قطب ومالك بن نبي وعلي شريعتي وخالص جلبي ومحمد باقر الصدر وغيرهم، واستلهم تجارب عديدة خاصة جمال الدين الأفغاني وعزالدين القسام وأبو الأعلى المودودي وآية الله الخميني وغيرهم، وسبح في بحر الفكر والأدب والفن العربي والعالمي بدون عُقد الانغلاق الثقافي، وعوائق الجمود الفكري، وأمراض التصلب العقلي.
تأثُر المفكر الشهيد فتحي الشقاقي بالإمام الشهيد حسن البنا كان واضحاً خلال مسيرته الفكرية، ولكن تمتعه بالمرونة العقلية والثقافية، وتميزه بالانفتاح الفكري والحضاري، أدى به إلى النظرة الموضوعية لفكر البنا بدون تعصب معه أو ضده، وهذا النهج برز في دراسته (التاريخ لماذا؟) المنشورة في مجلة الطليعة الإسلامية عام 1983 التي أكد فيها دور الإمام الشهيد حسن البنا في إحداث عملية البعث الإسلامي، واستعرض فيها تطور مسيرة الإحياء الإسلامي في القرن العشرين، ووضع فيها الإمام جمال الدين الأفغاني على رأس المرحلة الأولى من تلك المسيرة، واعتبر الإمام الشهيد حسن البنا يقف على رأس المرحلة الثانية في مسيرة الإحياء الإسلامي، التي بدأت من تاريخ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وأطلق عليها اسم (جيل البعث) وفيها يقول الشقاقي: "طرح البنا الإسلام بكل شموله شريعة تنظم كل جوانب الحياة من اقتصاد وسياسة واجتماع، بالإضافة إلى كونه عقيدة وعبادة، وخلال عشرين عاماً استطاع الإمام أن يبعث هذه الأمة من تحت الرُكام، وأن يطّور مفاهيم الحركة خلال هذه الفترة بتسارع ثوري متقدم، مُستلهماً القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح..." وسلط الشقاقي الضوء في هذه الدراسة على دور البنا من خلال الإخوان المسلمين في إعادة الثقة إلى الفرد المسلم والمجتمع المسلم، ونجاحه في طرح الإسلام بشكل ثوري ضد البدائل العلمانية التي طرحها الاستعمار... ثم تطرق إلى دور حسن البنا في حرب فلسطين التي جاءت مشاركة مجاهدي الإخوان المسلمين فيها تتويجاً لوعي وفهم الإمام وذاك الجيل لطبيعة التحدي الغربي الحديث ومشروعه الصهيوني في فلسطين، ويُضيف الشقاقي مُنهياً تلك المرحلة "ولكن تنطلق رصاصات الغدر في فبراير من عام 1949، ويتوقف نبض الإمام لتبدأ ملامح جيل جديد".
المرحلة الجديدة التي تحدّث عنها الشقاقي بعد مرحلة البعث التي كان عنوانها الإمام الشهيد حسن البنا، جاءت بعد اغتياله عام 1949، وأطلق عليها الشقاقي اسم (جيل التردد والمحنة)، واعتبرها مرحلة تراجع في مسيرة الإحياء الإسلامي، بفعل عوامل موضوعية تمثلت باشتداد قسوة الأنظمة العسكرية الحاكمة ضد الحركة الإسلامية خاصة النظام الناصري في مصر، وبفعل عوامل ذاتية متمثلة في فكر وبنية الحركة الإسلامية أهمها: غياب المنهج وفوضى المفاهيم وجمود الفكر وتوقف الاجتهاد. ويؤرخ الشقاقي لمرحلة جديدة بعد النكسة هي ( جيل الوعي والثورة). المفترض أنه سيتجاوز مرحلة التردد والمحنة، وسيتقدم بعملية البعث إلى نهايتها المنطقية والطبيعية مستلهماً تجربة وفكر الإمام الشهيد حسن البنا ومتجاوزها ليصوغ معادلة الإيمان والوعي والثورة، ولتحقيق هذه المعادلة كان لا بد من الإيمان بحتمية الحل الإسلامي الثوري على اعتبار أن الإسلام وحده كدين وحضارة وايديولوجية ثورية هو الشرط الوحيد لبقائنا واستمرارانا كأمة تستطيع مواجهة التحدي الغربي والمشروع الاستعماري كما قال توفيق الطيب، وكان لا بد من الانفتاح على كل الأفكار والتجارب وفي طليعتها تجربتي رُجلي القرن – البنا والخميني- حسب تعبير الشقاقي، ولذلك "لم يكن بالإمكان استمرار السكونية والجمود وتصلب الشرايين" حسب تعبير الشقاقي أيضاً، الذي اعتبر أن مهمة جيل الوعي والثورة هو أن يخوض معركته على مستويين: الأول حيث المعركة مع الأنظمة الحاكمة الاستبدادية الفاسدة، والثاني حيث المعركة التي قد يضطر لدخولها مع بعض أجنحة الحركة الإسلامية نفسها التي عجزت عن فهم نفسها وفهم الآخرين وفهم طبيعة العصر.
وصلنا إلى نهاية المقال، ولم نصل إلى نهاية استحضار الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي لفكر وتجربة الإمام الشهيد حسن البنا، فما كُتب هو جهد المُقل يتناسب مع المقام والمقال. وخلاصته أن الشقاقي كان دائم الاستحضار لفكر وتجربة البنا في لقاءاته وندواته مع إخوانه وتلامذته، كما جاء في مقدمة المقال بتوزيعه كتاب (حسن البنا.. الرجل القرآني) على المجموعة والطلب من كاتب هذه السطور تلخيصه وعرضه. كما أنه دائم استحضار البنا في كتاباته كما ورد في متن المقال، ومن أمثلته إهداء كتاب (الخميني.. الحل الإسلامي والبديل) إلى الإمامين – البنا والخميني- ودراسة (التاريخ لماذا؟) وغيرهما. وخُلاصة الخُلاصة أن الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي كمفكر ومبدع قد استلهم فكر وتجربة الإمام الشهيد حسن البنا التي ساهمت بقوة في حركة الإحياء الإسلامي، إلاّ أنه أدرك بأن التاريخ ليس ساحة انتظار على رصيف الأحلام الوردية، فتجاوزها باحثاً عن إجابة لأسئلة عصره مُحطماً قيود العقل وأغلال البصيرة، صاعداً نحو وعد الآخرة بجيل الإيمان والوعي والثورة.