بقلم د. وليد القططي
أصدرت لجنة الفتوى في الأزهر برئاسة الشيخ حسنين مخلوف عام في عهد جمال عبدالناصر 1956 فتوى دينية تُحرّم الصلح مع الكيان الصهيوني جاء فيها "إنَّ الصلح مع إسرائيل كما يريده الداعون له لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه والاعتراف بأحقية يده على ما اغتصبه"، واستندت الفتوى على النصوص الدينية من القرآن الكريم والسنة النبوية في دعم مضمونها. وفي عام 1979 في عهد أنور السادات أصدرت دار الافتاء المصرية برئاسة الشيخ جاد الحق جاد الحق فتوى دينية تُحلل الصلح مع الكيان الصهيوني جاء فيها "نصوص اتفاقية السلام وملحقاتها لم تضيّع حقوقاً ولم تقر احتلالاً" واستندت الفتوى على النصوص الدينية من القرآن الكريم والسنة النبوية في تأييد محتواها. تغير فحوى الفتوى الدينية من التحريم إلى التحليل في نفس الموضوع سببه ليس تغير الفتوى بتغير الزمان، بل تغيَر الحكام وتوجهاتهم السياسية تجاه الكيان الصهيوني، فذهبت المؤسسة الدينية المصرية الأشعرية ممثلة في الأزهر ودار الإفتاء لتبرير الواقع بالنص الديني وإضفاء الشرعية الدينية لسياسة النظام الحاكم.
مؤسسة دينية أُخرى تُمثّل مدرسة إسلامية مختلفة تتقاسم وتتنافس مع المؤسسة الدينية المصرية المرجعية الدينية والشرعية الإسلامية في العالم، هي المؤسسة الدينية السعودية السلفية، فوظفت النص الديني لتبرير الواقع وإضفاء الشرعية الدينية على سياسة النظام الحاكم. ومن أمثلة ذلك قيام بعض الفقهاء بشرعنة (إمارة المتغلّب) فقد أدركوا أنَّ السمة الغالبة بعد عصر الخلفاء الراشدين لتوّلي الخلافة والولاية والحكم هي (التغلّب)، وهي بالمفهوم المعاصر السيطرة على السلطة بالقوة العسكرية أو الثورية، فصاحب هذا الواقع التاريخي تبرير ديني لإضفاء الشرعية الدينية على الواقع بخلاف الأصل في تولية الخليفة أو الإمام (الرئيس) القائم على الشورى والاختيار. وكان أبو الحسن الماوردي أهم المنظرين لشرعنة الحاكم المتغلّب في كتابه (الأحكام السلطانية والولايات الدينية)، وجاء بعده شيخ الإسلام ابن تيمية الذي دعا إلى طاعة الحاكم المتغلّب مهما كان مستبداً وجائراً طالما يُقيم الشريعة الإسلامية.
وكانت المدرسة السلفية – قديماً وحديثاً – متميزة في ذلك، كما كل مفردات فقه التغلّب، ومن ذلك فتوى الشيخ صالح الفوزان "إذا تغلّب الحاكم على المسلمين بسيفه، وأخضعهم لطاعته... يلزم المسلمين طاعته في ذلك لأجل جمع الكلمة وتجنّب المسلمين سفك الدماء واختلاف الكلمة"، وكذلك فتوى الشيخ محمد العثيمين "لو خرج رجل واستولى على الحكم وجب على المسلمين أن يدينوا له حتى وإن كان قهراً بلا رضى، لأنه استولى على السلطة" هكذا لأنه فقط استولى على السلطة يجب طاعته، وواضح أنَّ طريقة التغلّب هي التي استولى بها آل سعود على الحكم في بلاد العرب، فكان لزاماً اعطائها الغطاء الشرعي بتحليل إمارة المتغلّب.
مثال آخر وعلى نفس المنهج من التراث الفقهي الإسلامي ومن أخطر الموضوعات التي تم تناولها محاباة وإرضاء للحاكم هو موضوع (الشورى) فقد جعلها بعض الفقهاء مُعلِمة اختيارية بخلاف الأصل الديني الذي يجعلها مُلزِمة إجبارية، بعد أن وجدوا أن المتبع تاريخياً لدى غالبية الحكام بعد عصر الخلفاء الراشدين هو عدم تطبيق الشورى كمبدأ أساسي في نظام الحكم الإسلامي، وأنها تطبق على نطاق ضيق محصور بالنخبة الصغيرة المُحيطة بالخليفة أو الحاكم، بدون توسيعها لتشمل (أهل الحل والعقد)، فضلاً عن أن تمتد إلى كل الأمة أو (الرعية)، وبالتالي كانت في معظم الأزمنة والأمكنة غير مُلزِمة للحاكم وأولي الأمر، فتكيّف بعض الفقهاء والعلماء مع هذا الواقع وذهبوا إلى القول بأن الشورى إنما هي للاستنارة والتوضيح فهي للإعلام وليس للإلزام، وأن الحاكم ليس مُجبراً للتقيد بالمشورة التي تُعرض عليه أو برأي الأغلبية. وابتكروا نظرية أن الشورى مُعلِمة وغير مُلزِمة، بخلاف النص القرآني القطعي الدلالة "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"، وهو خطاب موّجه للرسول – ﷺ– بصفته إمام المسلمين، ولكل من ولي من أمر المسلمين شيئاً، وينسجم مع صفات المؤمنين في سورة الشورى "وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ"، ومع السنة النبوية القولية والعملية عندما كان الرسول – ﷺ– يقول في كل موقف اجتهادي "أشيروا عليّ أيها الناس". فكانت نظرية الشورى المُعلِنة وكذلك نظرية إمارة المتغلَّب من أهم ركائز فقه الاستبداد السياسي.
توظيف الدين وتطويع النص بما يوافق الواقع السياسي، لتبريره وإضفاء الشرعية عليه، يُخالف الأصل في العلاقة بين النص والواقع، ويجعل الواقع حاكماً على النص بدلاً من أن يكون النص هو الحاكم على الواقع، هذه المنهجية التبريرية أنتجت تراثاً فقهياً في السياسة الشرعية حلً مكان النص؛ فأصبح يُساويه في القداسة، في عصور التخلّف التي لا زلنا نعيش آثارها من تقدم التراث على النص، مما سمح لفقه الاستبداد السياسي بالتقدم والتمدد في الواقع، على حساب فقه الحرية الذي تراجع وانكمش في الكتب، تحت تأثير الإرهاب الفكري وفكر الإرهاب الذي يمارسه التراثيون والصحراويون، فتم تفكيك المصطلحات الشرعية والمفاهيم الدينية، وإعادة تركيبها لتنسجم مع فقه الاستبداد، وفكر الاستعباد...
فكان من ثمراته المُرّة اختراع شرعية إمارة الحاكم المُتغلّب رغم مخالفتها لمبدأي الشورى والاختيار في تولية الحاكم، وتحويل الشورى المُلزمة بنص القرآن الكريم إلى شورى اختيارية بتأويل الفقهاء، واُختُزِلت إرادة الأمة (الرعية) في إرادة أهل الحل والعقد (النُخبة)، وتم تحريف مفهوم الطاعة لـ (أولي الأمر منكم) لتتساوى مع طاعة (أولي الأمر عليكم)، وتم الخلط بين الخروج المُسلّح على الحاكم الشرعي والمعارضة السياسية للحاكم الشرعي وغير الشرعي، وتم التوّسع في مصطلح (التعزير) ليشمل القتل تعزيراً لإطلاق يد الحكام في قتل معارضيهم السياسيين بغطاء شرعي، وتم تشويه مفهوم البيعة العامة لتصبح مدخلاً لشرعنة ولاية العهد للأبناء والأحفاد... وفي غفلة من فكر الحرية أبدع فكر الاستعباد نظرية (المستبد العادل) للتنظير للعبودية الطوعية للمستبد الجائر ثم المستبد الفاجر.
فقه الاستبداد وفكر الاستعباد لن ينتهي إلاّ بفقه الحرية والتجديد وفكر التحرر والتنوير وهذا يحتاج إلى مواجهة الارهاب الفكري وتهيئة مناخ ثقافي وبيئة علمية مستندة على البحث والاجتهاد والتجديد، وعلى هذا الطريق الأمة بحاجة دوما إلى من يُشعل نور الإيمان والوعي والثورة مع إشراقة نور كل صباح جديد.