بقلم/ راغدة عسيران
أعلنت المؤسسة الصهيونية الخاصة بالأراضي أنها تنوي تنظيم مزاد علني في الشهر المقبل (تموز/يوليو) لأراضي قرية لفتا المقدسية المهجّرة لزرع مستوطنة يهودية عليها.
منذ سنوات، تخطط هذه المؤسسة لبناء 250 وحدة سكنية وفنادق ومراكز تجارية، في هذه البقعة الجغرافية الشاهدة على التاريخ الفلسطيني الريفي المتجذر في المنطقة، وعلى إبداع الشعب الفلسطيني "للتكيف مع الطبيعة وليس على حسابها، (حيث) انخرطت (قرية لفتا) فيها وأصبحت مكونا أساسيا منها" (نظمي الجعبة).
لم تكن هذه الخطة الأولى التي يتبناها العقل الصهيوني بعد احتلال القرية عام 1948 لتدمير معالمها المعمارية والثقافية، وقد أحاطها بالمستعمرات والشوارع العريضة والسريعة، كي تبدو غريبة عن محيطها، وكأنها من زمن آخر. فأسكن منذ العام 1950 المستوطنين في بعض بيوتها الجانبية، واقتطع من أراضيها لبناء مستعمراته واستولى على نبعها ليجعل منه "نبعا توراتيا"، رغم غياب أي دليل تاريخي لهذا التزوير.
تتميّز قرية لفتا المهجرة، الواقعة شمال غرب القدس، بموقعها الجغرافي: تقع القرية على السفح الغربي لجبل خلة الطرحة، على الجانب الشمالي من طريق القدس – يافا القديم، وتربطها طرق بقرى دير ياسين، المالحة، عين كارم، الجورة، بيت إكسا، قالونيا، القسطل، بيت حنينا، شعفاط، العيسوية والنبي صموئيل، إضافة الى مدينة القدس، حيث تصل أراضيها حتى الأسوار الشمالية للقدس القديمة.
كما تتميزّ القرية بتاريخها القديم، إذ يشير الباحث نظمي الجعبة (كتاب "لفتا: سجل شعب" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020) أن القرية ظهرت في العصر البرونزي (أكثر من أربعه آلاف سنة) واستمرت حتى هجّر سكانها عام 1948. من خلال الحفريات ثم الوثائق التاريخية، تبيّن أن القرية كانت عامرة خلال معظم الحقبات التاريخية التي مرت بها المنطقة عموما، وفلسطين والقدس خاصة.
ما يميّزها أيضا عن القرى المهجّرة الأخرى في فلسطين، أنه لم يتم تدميرها بالكامل بعد احتلالها، بل سلمت مجموعة كبيرة من مبانيها التي تقع في جذرها التاريخي وأطرافه. لذلك، تشكل قرية لفتا المقدسية شاهدا حيّا على التاريخ الثقافي والمعماري والحضاري للريف الفلسطيني. وبسبب هذه الميزة أيضا، يناضل أهلها المهجّرون والموزّعون في أحياء القدس وخارج فلسطين، للعودة اليها ومنع تدميرها من قبل الجرافات "الإسرائيلية".
لم يكن الإعلان الأخير عن نيّة المؤسسة الصهيونية بيع أراضي قرية لفتا المحاولة الأولى لتهويد القرية. لقد أسكنت في خمسينيات القرن الماضي المئات من العائلات الصهيونية القادمة من الدول العربية والإسلامية في بعض بيوتها، قبل أن ترحّلهم خلال السبعينيات والثمانينيات، مع دفع تعويضات لها، وكأنها مالكة لهذه البيوت المسروقة. وبعد ترحيلهم، قام الصهاينة بتدمير سقوف هذه البيوت لمنع السكن فيها.
يؤرخ ابن قرية لفتا، الاستاذ يعقوب عودة (مواليد لفتا عام 1940) ورئيس "هيئة حماية التراث الثقافي للفتا" في الكتاب الصادر حديثا (لفتا سجل شعب) النضال المستمر الى اليوم ضد مخططات العدو الخاصة بالقرية، التي صنّفت كـ"محمية طبيعية" و"محمية أثرية" في العام 1964، ما ساهم في عرقلة مشاريع التدمير وأجّج الصراع بين المؤسسات الصهيونية المختلفة.
في العام 2004، وضع مخطط رقم 6063 لبناء فيلات وفنادق على أنقاض القرية. فتشكلت أول جمعية للاحتجاج على القرار الصهيوني من أبناء القرية وداعميهم، وتوجهت الى المحاكم الصهيونية، بالقول (محامي الجمعية): "فلا يعقل توطين قرية لفتا بغير سكانها الأصليين". فجمّد القرار ولم يلغَ، ولكن صدرت مشاريع أخرى في 2012 لبناء وحدات سكنية لأفراد القوى الأمنية الصهيونية، ثم مخطط 6885 في 2015، الى أن ظهر مخطط "وجه آخر للقدس" حيث تم هدم ثلاثة مبانٍ على أطراف القرية.
تمكّن أهل لفتا، الذين شكلوا "هيئة حماية التراث الثقافي للفتا" من تجميد معظم قرارات الهدم والبناء فوق أنقاض لفتا حتى الآن من خلال حشد الدعم الشعبي، والجهد الإعلامي الكبير حول القرية وأهميتها الثقافية والتاريخية، وتنظيم الزيارات الميدانية المنتظمة اليها والتعرّف الى معالمها: بيوتها المبنية على الصخور والملائمة للمنحدرات الطبيعية، مسجدها وساحته الواسعة، والمقام، والنبع والبركة، كنموذج للقرى الفلسطينية الجبلية، والتعرّف الى الحياة فيها قبل النكبة، من خلال الروايات الشفوية لكبار السن الذين ولدوا بالقرية وعاشوا فيها الى العام 1948.
يسرد ابناء لفتا المقدسية التاريخ النضالي ضد الاحتلال البريطاني الذي هدم عدة بيوت انتقاما من مشاركة اللفاوتة في ثورة 36-39، وكيف شاركت القرية في حرب 1948 ضد العصابات الصهيونية، وهي التي تعد من أكبر القرى المقدسية، إذ تصل أراضيها الى البلدة القديمة، مرورا بالشيخ جراح، حيث بنت المؤسسة الصهيونية على أراضيها المسروقة العديد من مبانيها الرسمية والخدماتية.
يناضل أهل قرية لفتا أيضا بالمشاركة في جميع المؤسسات الخاصة باللاجئين والداعية الى عودتهم الى قراهم وبلداتهم، حيث يرفعون مطالبهم، أولها التصدي لمشاريع الهدم، ثم العودة اليها. ثم عملت الجمعية مع المهندسين والمعماريين لدراسة معمّقة للبناء في القرية، بيوتها وحجارتها، وتقسيماتها، وأنواعها، وكذلك مسجدها ومقام سيف الدين، مستعينين بالأرشيف المكتوب والشفوي حول القرية، تمهيدا للتصدي مرة أخرى للمشاريع التدميرية الصهيونية وتقديم بديلا للهدم.
معركة أبناء قرية لفتا مكمّلة لمعركة أهل الشيخ جراح وسلوان، المهدّدين اليوم بالاقتلاع من قبل مؤسسات العدو الصهيوني. لقد تم اقتلاعهم في 1948، ولكنهم يحاولون العودة، بمنع أولا تدمير منازلهم التي ما زالت واقفة تنتظرهم. منذ ضم جزء من أراضي لفتا في العام 1924 الى بلدية القدس، خلال الاحتلال البريطاني، ارتبط مصير القرية وأهلها بمصير القدس في غربها وشرقها، وبنضال المقدسيين عامة، حيث يثبت كل يوم أن الصراع هو ليس فقط صراعا على الأرض وملكيته، بل صراعا على التاريخ، بين مستوطنين يخترعون تاريخا مزيفا لتسويق سرقتهم، والشعب الفلسطيني التي تثبت هذه الأرض أصالته، وصراعا حضاريا بين القيم الانسانية وقيم الإجرام المنظّم الممثل بالكيان الصهيوني وداعميه.
رغم عمليات السرقة التي نفذها المستوطنون للكثير من حجارة البناء وأغلبية الحجارة المزخرفة وبلاط الأرضية الملوّنة، للادعاء بقدم منازلهم، كما فعلوا في معظم القرى والمدن التي استولوا عليها، وتدمير بعض المباني من قبل السلطات الرسمية الصهيونية، وتحويل بعض البيوت الى وكر للرذيلة من قبل المستوطنين، ما زالت قرية لفتا تشهد على تاريخ فلسطين وعلى عبقرية أهلها الذين انخرطوا في الطبيعة وتضاريسها، خلافا للهمجيين القادمين من وراء البحار.
فهي قصة الاستعمار الاستيطاني الجشع مقابل الشعب الأصيل المتجذر في أرضه، قصة شبيهة بما حصل في أميركا عندما استولى المستوطنون الأوروبيون على الأراضي الأميركية وتعاملوا مع الشعوب الهندية بتدنيس الطبيعة وسرقة مقتنياتهم المقدسة وتدمير مزارعهم وبيوتهم، سعيا وراء الربح المقدس لديهم.
هي قصة الحرب الدامية التي يشنها الغرب الاستعماري على شعوب الكرة الأرضية.