بقلم/ أسامة عثمان
يسود الحالة الفلسطينية ركود، إنْ لم نقل انسداد سياسي، وتنشط في المقابل الاهتماماتُ المعيشية، من دون أن تصل تلك المعيشة إلى مستوى الرَّفاه، أو حتى الكفاية، لدى كثيرٍ من الأُسر والأفراد، (كما يُوهِم الاحتلالُ في أُزعومة السلام الاقتصادي)؛ بسبب تحكُّم الاحتلال بمفاصل الحياة الفلسطينية، ولأسباب ذاتية، أحيانًا. ومع ذلك تستمرُّ السلطةُ الفلسطينية، عمليّاً، في التعاطي مع تلك الحدود التي رسمتها دولةُ الاحتلال، من دونَ أنْ تنجح في ضبط الأوضاع الفلسطينية، أو إحكام سيطرتها؛ فالاحتلال لا يريدها قوية، كما لا يريدها ضعيفة، إلى حدّ الانهيار.
وبعد سنواتٍ على قيام السلطة الفلسطينية، ما وظيفتها، الآن، بالضبط؟ قد يقال إنّها كيانٌ انتقاليٌّ إلى الدولة الفلسطينية، ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية التي احتُلَّت، عام 1967، لكن بعد تضاؤل فُرَص هذا الانتقال، ومرور سنواتٍ على هذا الاستحقاق، ماذا بقي من أدوار للسلطة؟ هل تعرِّفُ السلطة الفلسطينية نفسَها، مثلاً، مدافعةً عن الفلسطينيِّين أمام اعتداءات المستوطنين التي تفاقمت؟ هل تشترط، مثلاً، قيامَها بالتنسيق الأمني بالامتناع عن انتهاك المسجد الأقصى، تلك الانتهاكات التي أيضاً تفاقمت، وزاد استفزازها، أم هل ترهن تلك العلاقة بوقف الاستيطان؟
لإنصاف، تقرّ قيادة السلطة، ومنظمة التحرير، بهذه الحالة الغريبة. لذلك تكرِّر، بين فترة وأخرى، التحذير والوعيد باتِّخاذ قرارات مهمة؛ لتصويب تلك الحالة. لكن على أرض الواقع، تستمرُّ في وظيفتها؛ في ضبط الأوضاع الأمنية، في الضفة الغربية، وهو الأمر الذي يلقى تقديراً من قادة سياسيّين في دولة الاحتلال، ومن قادةٍ أمنيِّين. ومع هذا الاعتراف بالجميل، لا تندفع دولةُ الاحتلال إلى معاملة السلطة بوصفها طرفاً سياسياً، ويرفض رئيسُ حكومة الاحتلال، نفتالي بنيت، مجرّدَ اللقاء برئيس السلطة محمود عبّاس، وتقتصر اللقاءاتُ الاحتلالية معه على وزير الدفاع بيني غانتس، ورئيس الشاباك، رونين بار الذي التقى عباس، الشهر الفائت (نوفمبر/ تشرين الثاني)، لمناقشة قضايا اقتصادية، والوضع المالي الصعب للسلطة، والتنسيق الأمني، والجهود المبذولة للتهدئة في قطاع غزة، وفقاً لصحيفة "يديعوت أحرونوت" والقناة 12 الإسرائيلية التي وصفت اللقاء بأنّه "اجتماع تعارُف"؛ استمراراً للقاءاتٍ سابقةٍ في السنوات السابقة بين عباس ورئيس الشاباك السابق.
لماذا تراجعت السلطة الفلسطينية عن التنديد بالدول العربية المُطَبِّعة مع الاحتلال بعدما شنّت هجوماً حادّاً عليها؟
ومع هذا الاعتراف الاحتلالي بهذا الجميل المهم، ودعوة قادته إلى تدارُك السلطة من الانهيار، واستنقاذ أوضاعها المالية الصعبة، إلّا أنّها لا تتوقَّف عن الخصم من أموال الضرائب (المقاصَّة)؛ بذريعة دفْع السلطة تلك النسبة المخصومة مخصَّصات للأسرى وأهاليهم والشهداء والجرحى، كما وضّح رئيس الحكومة، محمد اشتيّة؛ تلك الخصومات التي تسبَّبتْ في عجز السلطة عن الإيفاء بكامل الراتب لموظفيها؛ عن الشهر الفائت؛ لتقتصر على دفع 75% منه.
وتدرك دولةُ الاحتلال أنَّ الانسداد السياسي، بالإضافة إلى ارتفاع الانتهاكات الاحتلالية، وتواتُر الاستفزازات الاحتلالية المباشرة، أو غير المباشرة، يدفع إلى مزيدٍ من العمليات الفردية الموجَّهة إلى جنود الاحتلال ومستوطنيه، وهي تدرك إسهام السلطة في خفض تلك العمليات، والحدِّ من فُرَص عملياتٍ نوعيّةٍ باستهداف فصائل المقاومة، في الضفة الغربية. ومع ذلك، لا ترى ذلك موجِبًا لتقديم أيِّ بارقة أمل سياسية للآمِلين بجدوى التفاوض، وكأنها تعي القبول لدى تيَّارٍ متنفِّذ في السلطة، أصبح يقبل بقاء السلطة أو استبقاءها، على حالها، ثمناً، لقيامها بما تريده دولة الاحتلال منها.
والسؤال: ما الأسباب التي غلّبت في السلطة هذه الصفةَ الوظيفية، على حساب مسار المواجهة؟ ليس بالضرورة المواجهة العسكرية، أو شبه العسكرية، لكن حتى المواجهتين، السياسية والقانونية؟ لماذا قبِلت السلطة بتلك اللقاءات مع قادة احتلاليِّين، من دون ربطها بالمسار التفاوضي والاستحقاقات السياسية؟ ولماذا تراجعت فعليّاً عن التنديد بالدول العربية المُطَبِّعة مع الاحتلال بعدما شنّت هجوماً حادّاً عليها؟ قد يقال إنَّ مِن الأسباب تغيُّرَ الإدارة الأميركية، فقد جاء جو بايدن الذي لا يتبنَّى صفقة القرن، وولّى دونالد ترامب؛ صاحب تلك الصفقة التي هدَفت، بشكلٍ صريح، إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإسدال الستار، من طرَفٍ واحد، على قضايا الحلِّ النهائي؛ عودة اللاجئين والقدس، والانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو/ حزيران، بالإضافة إلى وعود بايدن بإعادة فتح القنصلية الأميركية العامة في القدس؛ لتعود، كما السابق، قناة اتصال بالفلسطينيين، ولتمثِّل تلك القنصليةُ الولاياتِ المتحدةَ في الضفة الغربية، بما فيها القدسُ الشرقية، وقطاع غزة. علماً أنّ مفردات تلك الصفقة لم تتوقَّف على الواقع؛ مِن استيطان وتهويد للقدس، وغيرها، والعنوان الصارخ الذي يتبنَّاه رئيس حكومة دولة الاحتلال، نفتالي بينت، هو لا حلَّ سياسيّاً، إنّما تقليصٌ للصراع.
المجتمع الفلسطيني جزءٌ من الحالة العالمية التي ترتفع فيها مُغذِّيات العنف، لكنّ الخطر أنْ تصبح السلطةُ جزءاً من تلك العوامل المغذية للعنف
ويبقى السؤال عن انعكاسات هذه الحالة المربكة على الفلسطينيين. من تلك الانعكاسات طفو الخلافات والنزاعات المجتمعية، ومنها الدموية التي طاولت حتى عُقْرَ المؤسسات التعليمية؛ المفترَض أنّها أبعدُ ما تكون عن ذلك المستوى العُنْفي، وغير الحضاري، كما حين تلقّت جامعةُ "الخليل"، في جنوب الضفة الغربية، شجاراً عائليّاً، انتقلَ إليها من المدينة، وكما حين صدَّرت "الجامعةُ الأميركية" في جنين، شمالي الضفة، توتُّراً هدَّدَ السِّلْم الأهلي؛ إثْرَ جريمة القتل التي وقعت في حرم الجامعة، وراح ضحيّتها طالبٌ جامعي؛ ما دفع إدارة الجامعة إلى إغلاقها، عدّة أيام، واتِّخاذ مجموعة من القرارات، كان مِن ضمنها "تجميدُ كافة الأُطُر الطلابية، وعدم القيام بأية أنشطة، داخل الحرم الجامعي، حتى إشعار آخر"؛ تفادياً منها، كما يبدو، أيّ أسباب للنزاعات الطلابية، أو تجدُّدها؛ تلك الأطر الطلابية التي كانت لا تنفكّ عن الصفة النضالية، ضد الاحتلال. وهذه علامة فارقة، ومؤشِّر مهم؛ أنْ تفقد الجامعة التي هي صرحٌ أكاديمي، ومصنع للشخصية الواعية، أن تفقد هيبتها، وأن تتآكل وظيفتها؛ لأنّها لا تقوى على التحصُّن من الارتدادات الخارجية، أو لأنّها، ولو جزئيّاً، أضحت في دائرة العنف.
بالطبع، ليس من الدقَّة أن تُعزى كلّ تلك التراجُعات، سواء السياسية، أو الاجتماعية، إلى السلطة الفلسطينية، وحدَها. على الصعيد السياسي، التراجعُ عربيٌّ رسمي، في الأساس. وعلى الصعيد الاجتماعي، المجتمع الفلسطيني جزءٌ من الحالة العالمية التي ترتفع فيها مُغذِّيات العنف، لكنّ الخطر أنْ تصبح السلطةُ جزءاً من تلك العوامل، إما بالانضواء تحت السقف المنخفض، وطنيًّا؛ بالقبول بالدور الذي حدّدته، وتريده دولةُ الاحتلال، أو بالتراخي (على المستوى المحلّي)، في المعالجة القانونية الرادعة، في وقتٍ يصعب فيه الفصلُ بين معطيات الحالة الوطنية الملتبسة (في أخفِّ التوصيفات)، وتفاعُلات الحالة المجتمعية المحتقنة؛ تأثيراً، وتأثُّراً.