تصل وفود الفصائل الفلسطينية إلى الجزائر، وفي طليعتها بطبيعة الحال حركتا حماس وفتح، تلبية لدعوة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لإدارة حوار وطنيّ فلسطينيّ على أرض الجزائر.
لا يملك أحد من الفلسطينيين أن يقول لدعوة كهذه لا؛ ليس لأنّ أحداً منهم لا يرغب بأن يُتّهم بأنّه المعطّل للمصالحة، فأمر كهذا بات خلف الجميع، والوقائع على الأرض لم تجعل لمناكفة من هذا النوع معنى، إذ بات الأمر واضحاً بلا التباس، لا سيما بعد إلغاء قيادة السلطة الفلسطينية الانتخابات التشريعية التي كان مقرّراً أن تجري في الثاني والعشرين من أيار/ مايو الماضي.
ولكنّ الفلسطينيين يتّسمون بالحذر البالغ خشية من إغضاب هذه الدولة العربية أو تلك، ويبدو لبعض القوى الفلسطينية أنّ مجرّد العلاقة مع دولة عربية مكسب، وهنا يمكن استحضار زيارة رئيس حركة حماس إسماعيل هنية للمغرب، بعد توقيعها اتفاقاً تطبيعيّاً مع "إسرائيل" للتوّ، وقد بات المغرب من أكثر المطبّعين حماسة لهذه العلاقة الآثمة، وأكثرهم استغراقاً فيها، ومن غير المستبعد أن سياق الخصومة المغربية الجزائرية فاعل في هذه الدعوة.
وعلى أيّ حال، وسوى ما ذكر، فلكل من الفريقين، أهدافه في الاستجابة للدعوة الجزائرية، فالسلطة معنيّة بتمويل جزائري محتمل أو موعود، وحماس معنية بتطوير علاقاتها الإقليمية والعربية، وفتح بوابات جديدة تخفّف من وطأة حصارها، ومحاولات عزلها.
بغض النظر عن ذلك كلّه، وبعد التقدير للعاطفة التاريخية الاستثنائية الجامعة بين الفلسطينيين والجزائريين، فإنّه من غير المتوقع أن يحرز هذا الحوار، على فرض تمامه، شيئاً يُذكر، لكثافة العوامل المانعة لتحقيق حدّ معقول من الاتفاق الفلسطيني، فضلاً عن مصالحة أو وحدة وطنية، والمرجو حينئذ ألا تدفع المجاملةُ الفرقاء لإدخال الفلسطينيين في مغامرة تفضي إلى المزيد من الإملال المكرور، كما كان في آخر التجارب المنتهية إلى انتخابات ملغاة!
الفشل المحتّم.. لماذا؟
لا يتعلق الفشل المرّجح بالإدارة الجزائرية للحوار، إذ تكفي نظرة خاطفة على تاريخ الحوارات بين الفريقين الفلسطينيين لدفع تصوّر من هذا النوع، ولكنّ الفشل ناجم عن أسباب فلسطينية ذاتيّة خالصة، لا تنقضها العوامل الخارجية. فالعوامل المؤثّرة إسرائيلية وإقليمية ودولية، نتيجة لخيارات قيادة مشروع التسوية الفلسطينية، التي كان ولا بد وأن تنتهي إلى سلطة محكومة بالهيمنة الإسرائيلية الكاملة، ومن ثمّ، ومع وصول مشروع التسوية إلى أجله الذي لا مفرّ منه، باتت السلطة الفلسطينية هدفاً كما هو، تُعنى به النخبة المستفيدة، مهما كان الأفق السياسي منعدماً، ومهما بلغت السياسات الإسرائيلية من النفي للوجود الفيزيائي والسياسي للفلسطينيين، فلا إرادة لدى قيادة السلطة للمواجهة المطلوبة للتصدّي لسياسات من هذا النوع.
يحيل ذلك إلى البحث في طبيعة الكيانية السلطوية القائمة، من حيث أنها هدف في ذاته، لا يعد بأفق سياسي، ولا يمكن أن يرقى إلى حدّ سياسي أعلى. وبالرغم من ذلك، فإنّ القيادة لهذه الكيانية تتمسك بهذا الهدف كما هو، ولم تحاول التغيير في مجراه، أو السعي إلى مسارات أخرى، حتّى في أشدّ ظروفها حرجاً، كما في فترة إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
فمجموع السياسات والإجراءات الإسرائيلية/ الأمريكية، والمدعومة إلى حدّ ما من فريق اليمين العربي التطبيعي، لم تكن لتعلن عن الوفاة الأكيدة لمشروع التسوية المسوّغ لوجود السلطة الفلسطينية فحسب، بل دفعت نحو انحسار وظائف السلطة نفسها، وتقليص صلاحياتها، وحدود عملها، ومجالات اشتغالها، لصالح التعامل الإسرائيلي المباشر مع جماهير الفلسطينيين. ومع ذلك، فإنّ تحولاً جدّيّاً واحداً لم يحصل!
كيانية كهذه تشير إلى البنية ونمط الارتباطات العضويّة بالعوامل الخارجية المؤثّرة، ومصالح النخبة الأكثر نفوذاً داخل الكيانية، ومع الانحسار المطّرد للشرعيات المتعدّدة، فإنّ سياسات تركيز الذات ستلجأ حتماً إلى إثبات الجدارة لدى العوامل الخارجية، كما ستعتمد أكثر على القوّة الأمنيّة، وهو ما يعني بالضرورة المعاكسة العنيفة لمتطلبات الحدّ الأدنى من الهدوء الوطني الداخلي، فضلاً عمّا هو أعلى من مصالحة أو وحدة وطنيّة.
إنّ جملة الممارسات المتصاعدة في الآونة الأخيرة، من توسيع الملاحقة للمجال الوطني العامّ في الضفّة الغربية، وليس فقط للخصم السياسي، إذ تطال الملاحقة العديد من الفاعلين الوطنيين كحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، لا حماس وحدها، ونمط إدارة العلاقة مع العدوّ، كاللقاءات مع مستوياته الأمنية والحربية، في ظرف بالغ الحرج من أبرز معالمه اتساع هجمة المستوطنين على الفلسطينيين، وما يشاع عن تجميد عمل اللجان المكلّفة بجمع المعطيات حول جرائم الاحتلال وانتهاكاته لرفعها لمحكمة الجنايات الدولية، كما تزعم مصادر إعلامية إسرائيلية، وسوى ذلك، لا تعطي أدنى مؤشر بإمكانية تحصيل اختراق معقول في العلاقات الوطنية الداخلية.
ما لا يقل عن ذلك أهمية، السياسات الداخلية الصرفة التي لا يفترض أنها محكومة بالعوامل الخارجية، فمع حلّ المجلس التشريعي، وإعادة هندسة المؤسسة القضائية في أجسامها وقوانينها، والتعطيل الفعلي لمنظمة التحرير، حيث لم يعقد أي اجتماع للمجلس المركزي لمنظمة التحرير منذ العام 2018، فإنّ النزوع واضح عمليّاً لتكريس الفاعلية السياسية بيد نخبة محدودة، وهو ما لا يؤشّر إطلاقاً على نوايا إيجابية نحو الشراكة الوطنية. بل إنّ إدارة الخلاف داخل هذه النخبة مؤشّر عمّا هو خارجها، فقد أُجل اجتماع المجلس المركزي الذي كان مفترضاً هذا الشهر، لخلافات داخل هذه النخبة، بالرغم من أهمية هذا الاجتماع بالنسبة لها، في التمهيد لترتيب المجريات الراهنة والمرحلة القادمة من بوابة منظمة التحرير، بعد تعطيل الانتخايات التشريعية.
ما سلف معطيات، وثمّة ما هو أكثر منها، لكن يكفي جمع بعضها ووضعها في سياق ناظم، لفهم اتجاهات القيادة الحالية للسلطة وحركة فتح، في ما يتعلق بالعلاقات الوطنية. وهو ما ينبغي أن يدفع الخطّ المقابل لها في الساحة الوطنية، للعمل على مسارات متحرّرة هذه الحلقة المفرغة.