يركض إياد بين أزقة مخيم الشاطئ بسرعة عالية، أنفاسه كانت تتصاعد وقطرات العرق تتساقط عن جبينه، يتجه يُمنة ويُسرةً متجاوزًا غبار الطلقات النارية التي يُصوبها الجنود نحو قدميه، لم يكن أمام إياد سوى تسلق أسطح منازل المخيم للاختفاء عن عيونهم، إذ نجح في هذا التكتيك أكثر من مرة، ما جعل الجنود يشعرون بخيبة أمل بإلقاء القبض على شاب صغير في مقتبل العمر أصابهم في حالة من الجنون قبل دقائق من مطاردته.
مشهد مطاردة جنود الاحتلال الإسرائيلي، قبل (38 عامًا) للفتى "إياد"، لا يمكن أن تمحوه السنين من ذاكرة شقيقه "أبو العبد" الذي روى لمراسل "شمس نيوز"، تفاصيل مفصلية عن حياة الشهيد القائد الكبير إياد العبد الحسني (أبو أنس) مسؤول ملف العمليات العسكرية وعضو المجلس العسكري لسرايا القدس.
تعود جذور عائلة الشهيد القائد إياد الحسني إلى بلدة حمامة المهجرة (عام 1948)، مفتاح البيت والحقول الزراعية، ورائحة خبز الطين، لا يمكن أن تختفي من مخيلته، إذ أن والداه كانا يجمعان أبنائهم ويتحدثان لهم باستمرار عن جمال طبيعة البلدة وهدوئها وطيبة أهلها، وتشتهر بلدة حمامة بزراعة الحمضيات والأشجار الحرجية.
هادئ جدًا
ولد الشهيد إياد الحسني في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة (عام 1972م)، كان أبيض اللون ذو جسدٍ جميل ووسيم، يقول شقيقه أبو العبد: "كنا نفتخر كلما سار إياد إلى جانبنا في أزقة المخيم، حيث العيون كانت تراقبه بدقة متناهية؛ لأن الكثير من النساء يرغبن بأطفال يتمتعون بجمال إياد ووسامته".
يتميز إياد وفقًا لشقيقه "أبو العبد" بأدبه وأخلاقه وهدوءه التام وحسن تعامله مع الناس؛ يُشير إلى أن شقيقه إياد لم يكن في يوم من الأيام عنيفًا أو شديدًا أو غليظًا، "فقد كُنت أعتقد أنه طفل مدلل لوالديَّ" لا سيما وأنه آخر العنقود للأسرة المكونة من (10 أبناء).
لم يكن إياد يرشق الحجارة على جنود الاحتلال قبل الانتفاضة الأولى، فقد كان همه هو الظهور بأحسن صورة، وأجمل ابتسامة، يُحب تصفيف شعره بدقة عالية، وارتداء الملابس الجميلة، ورش العطور التي تتميز برائحتها الفواحة؛ لكن إياد بعد مرور (16 عامًا) على ميلاده انقلبت حياته رأسًا على عقب.
حدثٌ فاصلٌ في حياته
يتوقف أبو العبد عن سرد تفاصيل حياة شقيقه؛ ليستخرج لنا من شريط ذاكرته القوية الحادث الجلل الذي حول شقيقه "إياد" من الفتى الهادئ ذو القلب الرقيق، إلى أسد هصور، وقلب لا يهاب الموت.
يقف (إياد) أمام المرآه يصفف شعره، ويرتدي ملابسه الجميلة، ثم يرى بعينيه الجميلتين ابتسامته الرقيقة الهادئة، صوته بالكاد يُسمع في المنزل، بيده اليُمنى أمسك زجاجة العطر ليرش الرذاذ على جسده، حينها كان يستعد للخروج برفقة أصدقائه قبل المفاجئة المدوية.
دون سابق انذار، كُسر باب المنزل واشتد الضجيج، وارتفع الصراخ، صوت الزجاج يتكسر، والصور المعلقة على الجدران سقطت على الأرض، كأنه زلزال مدمر؛ لكن ما يجري هو جزء بسيط من عملية اقتحام متكررة ينفذها جنود الاحتلال الإسرائيلي في منازل مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة.
كان (إياد) جالسًا في غرفته ينتظر هدوء العاصفة التي تجري داخل صالة الضيافة في منزله؛ لكن أحد الجنود فتح غرفة (إياد)، وفورًا تجمع الجنود المدججين بالسلاح؛ فطرحوه أرضًا، وتكسرت أضلعه، وشج رأسه، وسال دمه.
الدماء الزكية التي سالت من جميع انحاء جسده كانت نقطة تحول كبيرة في مسيرته وحياته وفقًا لشقيقه الأكبر "أبو العبد" الذي بكاه بحرقة وآلم كبيرين.
رد أولي محنك
تأثر إياد كثيرًا بالاعتداء الوحشي على جسده الطاهر، عقد حاجبيه وتغيرت ملامح وجهه، ثم نظر إلى السماء بغضب شديد ولسان حاله يقول: "ساعدني يا الله، فلن أسكت عن حقي مهما كلفني من ثمن"، هذه اللحظات المؤلمة كانت دافعًا لإياد بان يتحول إلى أحد أبرز ثوار انتفاضة الحجارة بل أشدهم عنفوانًا وقوة كما قال شقيقه "أبو العيد".
نصب جنود الاحتلال الإسرائيلي حاجزًا على مدخل مخيم الشاطئ من الجهة الجنوبية الشرقية، ما دفع أطفال المخيم لرشق الحاجز بالحجارة، في هذه اللحظات اشتعل الغضب في قلب إياد الذي أعد ذلك فرصته للانتقام.
خرج إياد مسرعًا من المنزل حاملًا بين أصابعه الحجارة و"المقلاع"، وبعينيه الثاقبتين يتفحص أزقة المخيم، تسللت إلى آذانه تحذيرًا من أحد الشبان: "الحذر يا أبطال الحجارة الجنود على مداخل المخيم"، لم يهتم كثيرًا لما يُقال بل اقترب رويدًا رويدًا من الحاجز، عندما وصل للجنود قام برشق الحجارة من نقطة الصفر.
هذه التفاصيل الدقيقة لأول انتقام من الشهيد إياد لما حدث معه رواها شقيقه "أبو العبد" الذي أكد أن شقيقه لا يهاب جنود الاحتلال ولا يخاف الموت، بل كان منذ اللحظة الأولى لاشتراكه برشق الحجارة يخطط بدقة متناهية لتكون من نقطة الصفر.
بعد أيام قليلة من المواجهات، اجتمع شباب المخيم يتبادلون أطراف الحديث، أحدهم طلب من "أبو العبد" أن يضبط شقيقه إياد خشية على حياته، مستذكرًا مشهد إلقاء الحجارة على الجنود الذين لم يتمكنوا من إطلاق النار عليه مباشرة نظرًا لكثافة الحجارة ودقتها.
ملاحقة إياد من بيت لبيت
لم يهدأ مخيم الشاطئ من المواجهات خلال انتفاضة الحجارة (عام 1987)، وفي كل لحظة كان جنود الاحتلال يقتحمون البيوت الآمنة ويعيثون فيها الخراب والدمار ثم يتركون رسالة في البيت المدمر مفادها: "بدنا الفتى الطويل العريض الوسيم حيًا أو ميتًا، قبل تدمير جميع بيوت المخيم على رؤوسكم".
تكرر مشهد إلقاء الحجارة من الفتى إياد الحسني على جنود الاحتلال الإسرائيلي بشكل يومي تقريبًا، النيران تشتعل في إطارات السيارات بلا توقف، ورائحة الدخان تنتشر في جميع أزقة المخيم، الرصاص كان ينهمر كالمطر فوق رؤوس الشبان، في تلك اللحظات تمكن جنود الاحتلال من اعتقال عدد من الشبان بينهم إياد.
اعتقل إياد لمدة شهور عدة كغيره من الشبان؛ لكنه خرج من المعتقل أكثر إصرارًا وقوة وعزيمة في مواجهة الاحتلال يقول "أبو العبد": "عندما كنت أطالب إياد بالهدوء والابتعاد عن المواجهات المباشرة وعدم إلقاء الحجارة من مسافات قريبة حفاظًا على حياته، كان رده مزلزلًا بالنسبة لي".
اهتز "أبو العبد" وارتفع جسده عن الكرسي مرات عدة أثناء مقابلته لمراسل "شمس نيوز" وهو يردد كلمات شقيقه إياد: "هذا الكيان يجب أن يزول، إذا أنا بدي ارتاح وأخوي بدو يرتاح وجاري يرتاح وصديقي ارتاح من سيكمل المشور ومسيرة الجهاد والمقاومة؟!".
تطور مهم في حياته
كانت انتفاضة الحجارة تشتعل وأعداد المشاركين من الشبان يتضاعف، أما عمليات المواجهات دخلت مرحلة جديدة فقد بدأت فصائل المقاومة تشارك بقوة وعنفوان، إذ أن حركة "الجهاد الإسلامي" تُعد من أبرز تلك الفصائل.
وفي عام 1988 التحق إياد الحسني بحركة الجهاد الإسلامي فكان وفقًا لشقيقه "أبو العبد": "أحد أبرز الشبان المشاركين في الانتفاضة باسم حركة الجهاد، وبعد سنوات عدة وكلت له مهمات عسكرية مهمة".
إصابتي وقود ووسام شرف
وضع "أبو العبد" يده على جبينه، وتسللت أصابعه من أسفل النظارة ليمسح دموعه الحارة على فقدان شقيقه، وهنا استرجع شريط الذكريات عندما أصيب بعد تنفيذ إياد لعملية ميراج العسكرية والتي أدت إلى قتل وإصابة عدد من الجنود.
"كانت ملابسه مغبرة، ورائحة البارود تفوح من جسده، عيناه كانت منتفختين، أما قدمه فكانت مغرقة بالدماء"، هذا مشهد مخلد في ذاكرة أبو العبد الذي أشار إلى أن شقيقه كان عائدًا من تنفيذه عملية ميراج البطولية.
بعد علاج الإصابة قال "أبو العبد": طلبت من إياد أن يهدأ قليلًا من المواجهات والعمليات، لكن رده كان أسطوريًا، وعظيمًا، "الإصابة وقود وشعلة ووسام شرف لي عند ربي سبحانه وتعالى".
4 صور مطلوبة بينهم "أبو أنس"
الإصابة لم تُوقف إياد من استكمال مسيرته الجهادية ضد الاحتلال؛ بل واصل الاشتراك في عمليات إطلاق النار منذ عام 1991 إذ شارك مع الشهيد المهندس محمود الخواجا بتأسيس (قسم) الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، واشترك أيضًا في التخطيط لعملية بيت ليد، وعملية ديزنغوف وعملية بيت حانون.
عقب مشاركته وتخطيطه لتنفيذ عمليات ضد جنود الاحتلال دخل إياد مرحلة جديدة في حياته فقد أصبح واحدًا من أبرز المطلوبين لجنود الاحتلال، يقول شقيقه أبو العبد: "عام 1996 أبلغني أصدقائي من عمال قطاع غزة بالداخل المحتل أن صورة شقيقه إياد معلقة على حاجز بيت حانون، احذروا الاحتلال وعملائه".
كانت الشمس حارقة والعرق يتصبب من جبين عمال قطاع غزة حينما وقفوا لساعات على حاجز بيت حانون، قرر جنود الاحتلال وضع تعليمات قاسية وظالمة، فقد أعدوا ممرًا مخصصًا لعبور العمال، في تلك اللحظة كانت صورة معلقة على مدخل الحاجز عليها أربع صور لقيادات خطيرة وهي (محمد الضيف – إياد الحسني – يحيى عياش – عدنان الغول).
تحول من مشتبك لمشروع جهادي
حاول "أبو العبد" وأشقائه تهدئة شقيقهم إياد وذلك بدفعه إلى دخول القفص الذهبي؛ لكن دون جدوى، حينما رد عليهم بالقول: "الزواج لن يوقف مسيرتي الجهادية والمسجد الأقصى يحتاج إلى رجال لتحريره من دنس المحتلين وهذا هدفي من الزواج".
عام 1998 دخل إياد مرحلة جديدة في حياته إذ انتقل من الاشتباك المباشر إلى تشكيل الخلايا الجهادية وتثوير الناس، ليحموا جميعا فكر ومشروع الجهاد والاستشهاد، إذ أنه شارك في تأسيس "سرايا القدس" الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي.
وتمكن إياد وفقًا لشقيقه "أبو العبد" من قيادة "سرايا القدس" منذ عام 2000 حتى عملية اغتياله من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، فقد كان سجله الجهادي خلال الـ 23 عامًا من قيادة سرايا القدس، حافلًا بالعمليات المباشرة والتخطيط وتطوير الأسلحة والصواريخ وتطوير تكتيك رد المقاومة على عمليات الاغتيال.
انسان بمعنى الكلمة
وللعودة إلى حياة الشهيد القائد أبو أنس الحسني فقد استعاد نجليه "أنس وعلي" شريط الذكريات لمراسل "شمس نيوز"، إذ أن الكثير من الناس كانوا يطلقون على والدهم اسم "غيث فلسطين"، يقول علي: "أبي كان انسان بمعنى الكلمة، يُعطي كل شخص دق الباب، كان يساعد اليتامى وعائلات الشهداء والفقراء والمساكين".
وفي يوم من الأيام غضب شقيقه "أبو العبد" بشكل كبير متسائلًا: "لماذا تعطي الناس وأبناءك يحتاجون إليك ويحتاجون إلى كل أموالك؟"، استقبل أبو أنس غضب شقيقه بابتسامة رقيقة وهادئة ولسانه يردد ويقول: "إسعاد الناس وفرحتهم عندي بكل الدنيا وبكل المال وأدعوا الله تعالى أن يرزقني فقط لأعطي هؤلاء الفقراء والمساكين، هذا يكفيني والله هو الحافظ".
الحلو زعلان مني
لم ينسَ "أبو العبد" الحديث عن علاقة شقيقه إياد ووالدته إذ قال: "كان اللقاء بينهما مليء بالفرح والسعادة، وفي بعض الأحيان تسيل الدموع باكية من الشوق"، في أحد الأيام غاب أبو انس عن الوالدة ولم يُسلم عليها.
كانت نار الاشتياق تشتعل في قلب والدته، وهي تقول لأبنائها وأحفادها: "غاب الغالي ولم يُسلم عليًّا"، وكانت تُشير برأسها إلى الخلف معربة عن حزنها لعدم رؤية مهجة قلبها، وعندما جاء في ساعات الليل أخبره أبو العبد بحزن والدته.
هرول أبو أنس إلى غرفة والدته، وعندما فتح باب الغرفة وجدها وقد أشاحت بوجهها عنه، علامة عن حزنها منه في تلك اللحظة انكب أبو أنس يقبل قدميها ويديها ورأسها وهو يردد بلسان ويقول: "الحلو زعلان مني"، فلم تجد الأم إلى أن تدمع عيونها وهي تقول "الله يرضى عنك".
لقاء بعد 9 سنوات من الغياب
قبل شهر ونصف من استشهاد أبو أنس الحسني كان قلبه يشتعل نارًا وشوقًا لاحتضان نجله الدكتور أنس بعد انتهاء مرحلته الدراسية من "طب الأسنان" بكالوريوس وماجستير، كان الاشتياق مؤلمٌ جدًا فقد أصر أبو أنس من الالتقاء بنجله على معبر رفح.
من بعيد ركض الأب الحنون "إياد" صوب نجله الدكتور "أنس"، فالتحم الطرفين في مشهد أبكى كل من شاهده، فالصمت كان أقوى حديث بينهما، يوقل أنس عن هذا اللقاء: "كنت أشعر بالأمن والسكينة والطمأنينة وأنا بحضن والدي، كنت مشتاق جدًا لهذا الحضن الجميل، لكن الحمد لله الذي منا علينا باستشهاده مقبلًا غير مدبر".
وقال أنس: "أبلغني والدي أكثر من مرة برغبته بأن يراني عريسًا، بعد انتهاء دراستي في طب الأسنان، وجئت قبل شهر ونصف من استشهاده لألبي رغبته؛ ويحمل بين بيديه إياد الصغير لكن قدر الله وما شاء فعل، فقد طلب والدي الشهادة وسعى لها حتى نالها رحمه الله".
فاجعة الاستشهاد
تتابع عائلة الحسني مجريات أحداث معركة "ثأر الأحرار" عن كثب والحزن كان يتغلغل في قلوبهم لاستشهاد قادة سرايا القدس وأبناء شعبنا من الأطفال والنساء، كانت قلوبهم محترقة وحزينة جدًا.
ظهر على الشريط الإخباري الأحمر على القنوات الفضائية نبأ استهداف شقة سكنية في شارع النصر، هنا انقبض قلب أبو العبد وبدأت دقات قلبه ترتفع بشكل جنوني، متسائلًا: "أيعقل أن يكون أبو أنس؟"، بدأ يتجول داخل المنزل ويجري بعض الاتصالات ليتأكد من الأخبار المتداولة؛ لكن لا يوجد إجابة دقيقة.
علامات القلق بدت تظهر على وجه "أبو العبد"، وعندما جلس على الأرض وصلته رسالة على الهاتف النقال، فقبل أن يكمل قراءة الرسالة كانت الدموع تتساقط من عينيه لتجيب كل من ينظر إليه بذهول.
جمع "أبو العبد" أبناء شقيقه ونقلهم إلى مستشفى الشفاء بغزة، وهو يبكي بحرقة وألم على استشهاد شقيقه، كاد الموقف أن يخون تماسكه في بيت العزاء أثناء اجراء المقابلة إذ تساقطت دموع أبو العبد على الأرض محاولًا أن يخفي صوت الحزن والألم وهو يردد: "كيف ستكون حياتي بعد استشهاد توأم روحي".