غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

ديوانٌ شعريٌّ من رحمِ الإبادة

بالصور جواد العقاد "يقودُ الطيورَ من المذابحِ".. نِضَالٌ على جبهةِ الكلمةِ والحرفُ سلاحٌ!

شمس نيوز – وليد المصري

متوشحاً بهيبة التأمل ووقار اللُّغة، يَستغرقُ "جواد العقاد" في قراءةِ عددٍ من قصائدهِ الشعرية في ديوانه الجديد ومراجعتها قبل أن يرسله للنشر، تبدو ملامحُ وجهه هادئة لكنها تنطق بألف حكايةٍ من الوجع الممزوج بالصمود.. عيناه المعلقتان بسطور أشعاره تدلان عليه، وكأنه يستنطق أحرفه ويتحاور معها باحثاً بين طياتها عن شعاعِ النور لوطنه السليب وسط ركام المنازل المدمرة وأتون النزوح المتكررة.. تتناثر خلفه الأشياء بلا ترتيبٍ في خيمة النزوح بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، كأنَّها شاهدةٌ على فوضى المكان والزمان، وسعير الحرب الإسرائيلية المستمرة. 

بين يديه، يكتسي غلاف ديوانه الجديد "أقود الطيور من المذابح" بعظمةِ الشهداء، وأنَّاتِ الجرحى، وغضبِ الثائرين، وكفاح المُناضلين، وصبرِ النازحين، وصمودِ الفلسطينيين.. قصائدُه كالمِرآةِ التي تعكس معاناة الشعب الفلسطيني وآماله وأحلامه المغتالة، إنها أشجارٌ وارفةٌ ظلالُها يلجأ إليها باحثاً عن السكينة في ظل بيداء قاحلة وعدوان مستعر.

الشاعر جواد العقاد

"جواد لؤي العقَّاد"، شاعرٌ وكاتبٌ وإعلاميٌّ فلسطينيٌّ من مواليد عام 1998، في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، استطاع كتابةِ وإنجازِ ديوانٍ شعريٍّ جديدٍ استلهم قصائده من الحرب المدمرة التي يعيشها في قطاع غزة، رغم نزوحه المتكرر، والخوف وانعدام الأمان والهدوء.

درس الأدبَ العربي في جامعة الأزهر بغزة، وقبل الحرب كان يُحضِّر لرسالة الماجستير في الفكر العربي المعاصر ونقده بجامعة القدس المفتوحة، ويعمل رئيساً لتحرير صحيفة "اليمامة الجديدة" الثقافية، وهو عضوٌ في الاتحاد العام للكُتَّاب والأدباء الفلسطينيين، ويُدير قسم الأنشطة في مؤسسة معين بسيسو التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية.

إضافة إلى ذلك، فالشاعر "العقاد" عضو وباحث في المعهد العالمي للتجديد العربي (مقره مدريد)، ومستشار ثقافي مع مؤسسات عدة، أبرزها مؤسسة هوب الهولندية ضمن مشروعها لترجمة الأدب الفلسطيني، وشارك في مؤتمرات وفعاليات ثقافية وعلمية على مستوى فلسطين والعالم العربي.

لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام

وأطلقت صحيفة "اليمامة الجديدة" الثقافية، التي أسسها "العقاد"، بودكاست "نداء الكلمة"، وهو برنامج يستعرض مجموعة من القضايا المتعلقة بالثقافة والفنون، بما في ذلك التراث الثقافي، والأدب، والموسيقى، والسينما، والفنون التشكيلية، والتصوير الفوتوغرافي، من تقديم الإعلامي والكاتب القدير ناصر عطا الله -عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتَّاب والأدباء الفلسطينيين-، وإخراج الإعلامي وليد المصري، ومتابعة فنية المدير التنفيذي للصحيفة حمادة العقاد، ومحتوى إبداعي بلال شبير.

برنامج نداء الكلمة

أصدر الشاعر "العقاد" 3 كتب في الشعر والنقد، وديوانه الجديد (أقود الطيورَ من المذابح) تحت الترجمة والطبع في بريطانيا، ونشرَ العديد من المقالات والآراء والأوراق البحثية بمجلات ثقافية عربية عدة.

مؤلفات الشاعر والكاتب جواد العقاد.jfif

يُعرِّف "جواد" نفسه بأنه "مقاتلٌ على جبهة الكلمة، وأعتز بأنني لازلتُ قادراً على قتال الموتِ بأشكالٍ متعددة.. نحن المقاتلون الحقيقيون، الباحثون عن فسحةِ الحياةِ في عِزّ الموت".

من وجهة نظر الكاتب والشاعر الشاب، فإن الأدب والشّعر يرصد بالكلمة تفاصيل المعاناة والحالات العاطفية والانفعالية التي يعيشها الإنسان في الحرب، وهذا ما لا يمكن للكاميرا نقله بصورة إنسانية عميقة، ومن ناحية أخرى يرى أن "الأدباء يؤدون دوراً مهماً، -لم يحصل بعد-، في تحرير الإنسان من قيوده الآنية الضيقة إلى آفاق الحرية والإبداع، ومن هنا يمكن أن يصنع الأدب قارئاً قادراً على التغير والبناء وتحريك المجتمع نحو الأفضل".

"الحبّ الإنساني بالمعنى الشمولي والحرب بكل ما تحمله من قسوة.." كلها مفرداتٌ شكّلت حقولاً دلالية مركزية في نصوص الشاعر "جواد العقاد" قبل الحرب المتواصلة في غزة، فهو كما يلفت: "فلسطيني تربطني مع الحرب علاقة تاريخية عميقة، منذ عقودٍ طويلةٍ يعيش شعبنا حروباً وحصاراتٍ ومراحل صعبة وحرجة على المستوى الإنساني وكذلك السياسي".

وفق الشاعر الشاب، فإنَّ "الحرب مفردة تتشكل في وعي الشاعر الفلسطيني من بداياته، فكيف بمن يخوض غمار البؤس والشقاء في حربٍ غير عادلة؟، إذ إن الحرب عمَّقت شعوري الإنساني وحَفَرَت في وجداني وذاكرتي لأكتب شِعراً صافياً خالصاً متخلصاً من المؤثرات الأيديولوجية وغير الإنسانية، فالنصّ يبدأ من ألمي الفردي وينتهي بالتعبير عن معاناة المجموع. نصّي هو ألم الجماعة في لغة الفرد".

مكتبة الشاعر جواد العقاد

لا يذكر "العقاد" عدد مرات النزوح التي خاضها؛ لكثرتها، فقد نزح حوالي 5 أشهر إلى مدينة رفح جنوبي القطاع، واستقر حالياً في دير البلح بعدما عاد 3 أشهر إلى بيته الذي دمرته طائرات الاحتلال وحارته التي تغيرت ملامحها في مدينة خان يونس، عدا عن النزوحات الداخلية المتكررة، يقول: "للمفارقة كان هناك نزوح داخل البيت إلى الطابق الأرضي وأحياناً الدرج وقت القصف الشديد أول الحرب".

في بيته المدمر، كان "العقاد" يشعر باستقرار نفسي وعاطفي وأنجز في الشّعر والكتابة والقراءة أكثر من أي وقت مضى، ففيها "جمعتُ وراجعتُ ديواني الجديد، وكتبتُ مقالات عديدة وقرأت كثيراً... فكرةُ البيت دافئة جداً حتى أوج الحرب والقصف هو أكثر دفئاً وأريحية من فكرة الهروب المتكرر من أجل النجاة. فأنت مالك البيت وملكه، تملك مكانك وزمانك فلا تشعر بالغربة".

رحلات النزوح القسري المتكررة هي أكثر المشاهدات التي أثرت في الشاعر "العقاد"، واستنهضت قريحته الشعرية، إذ إنَّ مشهد التغريبة -كما يُوضح لمراسل "شمس نيوز"- يتكرر بصورةٍ ملونةٍ تجسِّد تفاصيل المعاناة بصورة أكثر وضوحاً على شاشات التلفزة المباشرة أمام ضمير العالم.

هذه الحالة -من وجهة نظره- هي الأكثر المشاهد التي عاشها قسوةً في هذه الحرب، "لا من ناحية الحياة اليومية الصعبة وتفاصيلها القاهرة، فالنازح يقضي يومه يلاحق كسرة الخبز وشربة الماء والتنقل المستمر بين الأماكن بحثاً عن أمان وسكينةٍ في خيام أو مراكز الإيواء التي لا تصلح بالتأكيد للحياة الآدمية".

علاوةً على ذلك، فإن هناك مشاهد ومواقف كثيرة في الحرب أثَّرت في الشاعر "العقاد" وتفاعَلَتْ مع تجربته وألمه الشخصيين، وهو ما عكس بعضها "لتتحول إلى لغةٍ وصورٍ شعريةٍ وأخرى لا تزال عالقة في وجداني وذاكرتي المكتظة بالرماد والدم والركام".

حمل "العقاد" في كتاباته هموم النازحين وحكاياتهم المعبقة بالآلام والتضحيات، يُوضح: "أنا لم أكتب عن ذاتي وشتاتي فحسب بل انطلقتُ من عمقِ وجعي إلى فضاءِ اللغة حاملاً هموم آلاف من النازحين وأحلام الأطفال البريئة وطموحاً وحباً وبلاداً اسمها فلسطين.."، مضيفاً: "أكثر ما يوجعني هو العجز عن البوحِ وقول الوجع شِعراً؛ فاللغة لا تستوعب قسوة المشهد وفيض المشاعر في أحيانٍ كثيرةٍ".

الشاعر جواد العقاد

في بداية الحرب قبل النزوح، كان الشاعر "العقاد" حريصاً على كتابةِ الشّعر بشكل يومي دائم بل لحظي، يصف ذلك بقوله: "(أكتب موتي وأنا واقف) فأنا غير مستقرٍ نفسياً وعاطفياً ولا معيشياً، وفي حالةِ القلق يبدأ الشّعر في شقِّ عوالمه في النفس، ومن هنا كان القلم سلاحي في مواجهة الرعبِ والقلق. وفي ظروف النزوح حيث لا مجال للاستقرار ولا خلوة الكتابة تقتحمني القصيدة فأكتبها فحسب". ويؤكد: "بالكتابة أسجل موقفي وموتي، كما قال شاعرنا معين بسيسو "قلها ومت"".

شكَّلت هذه التجربة القاسية على الصعيد الوجداني والوجودي للشاعر "العقاد"، حالة من عدم الاستقرار والاستقلالية لم يتمكن معها من متابعة القراءة والكتابة بنهمٍ، ولكنه حاول فعل شيء، "أسرق اللحظات للكتابة فأجلس مساءً في زاوية هادئة من الشارع وأكتب، وهكذا كتبتُ عدداً لا بأس به من قصائد ديواني الجديد "أقود الطيورَ من المذابح" الذي يتضمن مشاهدات ومواقف إنسانية أَعدتُ صياغتها بطريقةٍ شعريةٍ، فالطيور تحمل إصراراً على الحياة بالرغم من فيض الدم".

يأتي الديوان الشعري الجديد (أقود الطيورَ من المذابح) ضمن مشروعٍ ثلاثي، يرصد بالكلمة، والصورة التعبيرية، والترجمة، حالةَ الحرب والشتات التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزة، كما يتضمن تقديماً شِعرياً معبراً عن حالة "جواد العقَّاد" في الحرب بقلم الشاعر أنور الخطيب، وجاءت كلمة الغلاف تجسد دلالات الديوان بقلم الشاعر والإعلامي زاهي وهبي.

يتمحور الديوان الشعري حول فكرة الحب والحرب والبحث عن حياة في مشهد الرماد والدم، فأغلب النصوص كتبها "العقاد" في الحرب، لكنَّ هناك نصوصاً أخرى كتبها قبل الحرب إلا أنها لم تتحرر من مفردة الحرب ودلالتها ومرادفاتها، فمثلاً: نص "عروش الدم" كتبه في قبل عامٍ من اندلاع الحربِ جاء فيها: (الطوفان قادم.. طوفان دمي...). إذ لم يبدأ -كما يعتقد العقاد- شعورُ الفلسطيني بالحرب والمعاناة والبؤس من تاريخ 7 أكتوبر فحسب، بل هو تاريخ طويل من المعاناة السياسية والإنسانية.

ويأمل الشاعر الشاب أن يكون ديوانه الجديد وثيقةً شعرية إنسانية عميقة ترصد الوجع الفلسطيني والأيام الثقيلة التي يعيشها في غزة.

الشاعر جواد العقاد في مقر الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين.jfif

ويرى "العقاد" بأن "الكتابة لا تفعل شيئاً في حضرة الدم، فهي لن تعيد الأطفالَ الشهداء إلى أمهاتهم، ولن تحرر البلاد أو تنهي الحرب، لأنَّ المثقفين والكتَّاب فشلوا في تحرير الإنسان".

ويختم حديثه: "لن أدَّعي أن نصوصي الشعرية وغير الشعرية يمكنها تحريك شيئاً في ضمير العالم، فالشّعر والكلام ضرب من العبثِ في حضرة الدَّم.. والعالم يصمت، يستنكر، يصمت، ويبقى في خرسه..".