يوم الثلاثاء 30 يونيو ظهر ثلاثة شبان صغار السن، مطلقين شعورهم ولحاهم كعادة الوباء الداعشي، يتوعدون حكومة حماس (العلمانية) التي لا تطبق شرع الله، ويهددون بإعادة سيناريو مخيم اليرموك في القطاع؛ إذ ستسيل في غزة الدماء، وسيبكي الصغار قبل الكبار.
في يوم الأربعاء 1 يوليو تم تنفيذ الهجمات الكبيرة في سيناء، استهدفت هجمات تنظيم الدولة/ ولاية سيناء خمسة عشر مقرًا أمنيًا، فحاصرت مراكز الشرطة، وعملت على قطع خطوط الإمداد للجيش؛ مما أدى في النهاية إلى مقتل مئة من أفراد الجيش المصري، واستيلاء التنظيم على بعض الذخيرة.
هذه الهجمات الخطيرة التي توضح فشل السلطات العسكرية والأمنية المصرية في ضبط الوضع الأمني في سيناء، ومدى القوة التي أظهرها التنظيم في تنفيذ عملياته بما يملكه من ذخيرة أصابت حتى طائرات الأباتشي التي حاولت التغطية على الجيش جويًّا، جعلت بعض المحللين العسكريين يذهبون إلى احتمال سيطرة التنظيم على سيناء سيطرة شاملة، وتحويلها إلى ولاية جديدة تنضم للدولة المطاطة، التي تخطط دائمًا لفرض سيطرتها العسكرية والإدارية على الأماكن التي تنفذ فيها عملياتها الموسعة.
هناك افتراضات كثيرة تعزز هذا الاحتمال منها ما يتعلق بالطبيعة الجغرافية لسيناء، كمكان صحراوي اعتاد أفراد التنظيم عليه، ومنها ما يتعلق بطبيعة السكان المهمَّشين والمحرومين من خدمات الدولة أو مشاريع التنمية، إضافة إلى الطبيعة القبلية التي يسهل على داعش شراؤها بالمال، وأخيرًا -ومن خلال الهجمات الأخيرة- تبدو قدرات الجيش النظامي المصري أقل مما يروج لها إعلاميًا؛ فكل مشاريع محاربة الإرهاب التي تم التسويق لها، بما فيها تهجير السكان وتفجير البيوت في سيناء من أجل تأمين الشريط الحدودي، بدا أنها ضربٌ من التجارة الإعلامية لا أكثر ولا أقل، إضافة إلى أن السلاح الذي استطاع التنظيم الحصول عليه يشير إلى خلل أمني في ضبط تجارة السلاح وتهريبه التي عرفت بها سيناء، والتي ستكون نقطة إضافية لصالح التنظيم.
والسبب الأقوى الذي يدعو لفرض مثل هذه الاحتمالية هو أنَّ الخطاب الرسمي المصري لا زال يخفي فشله في مواجهة التنظيم، بمحاولة ربط الهجمات بأطراف أخرى تخدم صراعه الخاص، مثل الإخوان المسلمين وحماس، فردًّا على هجمات سيناء يقتل النظام قادة الإخوان، ويروج بعض متحدِّثيه تحليلات عن أن التفجيرات لها علاقة بفتح معبر رفح خلال الأسبوع السابق لها، وأنَّ أفراد التنظيم أثناء الهجوم كانوا يتكلمون لهجة غير مصرية، وهذا يجعل حماس متهمًا في هذه القضية، وعليه: يرى هؤلاء ضرورة تشديد الحصار على قطاع غزة عبر تشديد الرقابة الأمنية على معبر رفح.
كل هذه الردود من قبل النظام لا تؤدي في الحقيقة إلا إلى زيادة شعبية تنظيم الدولة بوصفه خلاصًا من قهر الدولة، وذلك على حساب الجماعات الأكثر اعتدالًا كالإخوان وحماس، والتي سينسحب بعض أعضائها من توجهاتها المعتدلة إلى الخيارات الأكثر تطرفًا، كالتضاربات الأخيرة في صفوف الشباب المنتمين إلى جماعة الإخوان بعد أحكام الإعدام التي أقنعتهم بأن طريق “السلمية” هو طريق مسدود يؤدي إلى زيادة الاضطهاد، وجعلهم في موضع استضعافٍ أبدي.
السؤال الذي نطرحه هنا: ماذا لو تكررت مثل هذه الهجمات على سيناء؟ وماذا لو أبدى تنظيم الدولة مزيدًا من القدرة على تنفيذ مخططات أكثر عمقًا؟
الحقيقة أن خطورة سيناء تكمن في أهمية موقعها الاستراتيجي الذي لن يجعل أيَّ صراعٍ داخليٍّ يتعلق بالدولة المصرية وحدها؛ فمن جهة: ترتبط سيناء بالحدود الإسرائيلية، ومن جهة أخرى ترتبط بقطاع غزة، وكلا الوجهتين حسَّاسة بما يكفي لتشكيل صراعٍ ساخنٍ، يشكل فيه هذا الرباعي المتنافر: حماس، إسرائيل، داعش، مصر، أطرافًا لا يمكن سوى أن تزيد احتمالات تفجير الأوضاع الأمنية بشكلٍ غيرِ مسبوق.
الغريب أنه من بين هذه الأطراف اختصَّ تنظيمُ الدولة حماس بتهديدٍ قاسٍ وصريح عبر رسالته المصوَّرة، وهو يبين مدى اهتمام التنظيم بخصومته مع حماس، ذلك أنَّ التنظيمَ يحرص على القضاء على منافسيه مثلما يحرص على قتال أعدائه، وهذا واضح من خلال الاستراتيجية التي اتبعها في معاركه في سوريا ضد فصائل المقاومة الأخرى، أو حتى في علاقته بجماعته الأم “القاعدة” وتمرده عليها وسعيه إلى سرقة سلطاتها وجعلها لصالحه.
وإذا اعتبرنا كلًا من تنظيم الدولة وحماس جماعتين بمرجعيات دينية (على الرغم من اختلاف التفسير لهذه المرجعيات النصوصية والتراثية واقعًا)، مع ما تتمتع به حماس من شعبية جماهيرية: عربية وإسلامية بوصفها خط الدفاع الأول عن القضية الفلسطينية المقدَّسة، فإن تنظيم الدولة لن يروقه مثل هذه المنافسة، وسيعمل -إن آجلًا أو عاجلًا- على الدخول في سباق السلطة والمنافسة على القضية الفلسطينية بكامل رمزيتها، حتى وإن كان دخولًا غير جادٍّ تمامًا؛ إلا أنه سيمنحها المزيد من الحضور والأنصار.
ومع التطورات الحاصلة في سيناء، والتي يمكن أن تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، سيكون هناك احتمال لفعالية أكبر للتنظيم في قطاع غزة، بسبب القرب الجغرافي، والاشتراك الحدودي الذي سيضمن نوعًا من التواصل، والإمداد العسكري لأتباعه في القطاع، أو في احتمالٍ أكثر بعدًا، تصدير مقاتليه إلى القطاع؛ ومع ازدياد شراهة شهية التنظيم للتوسع الجغرافي، وفرض السيطرة الإدارية على المناطق التي يُخْضِعُها عسكريًا شراهةً بعد إنجازاته في سوريا والعراق، كما ازداد غروره بمقدَّراته بعد العمليات الهجومية التي نفذها يوم الجمعة الماضي في تونس والكويت، يصبح هذا التهديد لحماس متوقعًا، ولكن لماذا سيكون من الحكمة ألا يدخل تنظيم الدولة في صراع مع حماس؟
هناك عشرة أسباب (منطقية) تجعل تكرار تجربة التنظيم في سوريا والعراق غير محتملة في غزة، ونذكرها باختصار:
1- لا مكان لصراعات طائفية في غزة، فإذا كان التنظيم قد حقَّق سيطرته في العراق اعتمادًا على المدخل الطائفي؛ حيث تنامت المشكلة الطائفية بعد الاحتلال الأمريكي، مما جعل القبائل السنية تميل إلى تأييد التنظيم باعتبارها الملجأ الحصين من الاضطهاد الشيعي، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق في غزة، فحماس تمثل الاعتدال السني الذي أثبت كفاءته القتالية والإدارية منذ سنواتٍ طويلة، وهي التي حققت من خلال جهادها حاضنة شعبية لا يمكن منافستها من قبل أفراد التنظيم المعزولين عن المجتمع، بل ويكفِّرونه!
2- كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس ليست جيشًا نظاميًا يتقاضى راتبه من الدولة أو من جهات خارجية، وإذا كان التنظيم قد استفاد من انسحاب الجيش العراقي أثناء سيطرته على الرمادي، فإن كتائب القسام التي خاضت ثلاث حروب ضد الاحتلال الإسرائيلي، بما يمثله جيشه من قوة لا تنافس، لن تعجز أمام تنظيم الدولة، ولن تنسحب.
3- كتائب القسام ليست جيشًا، وهي ليست ميليشيا، ولا قوات مقاتلة تحارب بالوكالة عن قوى إقليمية لها مصالحها الخاصة في المنطقة، فإن كان فيلق القدس وقوات حزب الله في سوريا لا يجدان القوة الكافية لمواجهة التنظيم، فإنه وعلى العكس تملك كتائب القسام من الإيمان بقضيتها التي تدافع عنها طويلًا ما يكفي لمواجهة حقيقية.
4- لا ضباط بعثيين في غزة: إذا كان التنظيم قد اعتمد في خططه الاستراتيجية، ومنظمته الاستخبارية على ضباط بعثيين قام الجيش الأمريكي بفصلهم من أعمالهم بعد احتلاله العراق، فوجدوا في التنظيم ما يشبع شهواتهم التسلطية، وانتموا إليه مكملين رحلة صدام حسين الاستخبارية، فإن غزة يوجد بها جهازها الأمني الذي استطاع فرض الأمن داخليًا بشكلٍ يشاد به منذ سيطرتها على القطاع في يونيو 2007.
5- إذا كانت العراق هي مهد التنظيم، فإنها أيضًا الجغرافيا التي يستطيع أن يدخل شعابها، ويخطط لعملياته العسكرية فيها بحنكة الخبير، لا المستكشف، وعلى العكس تمامًا يشكل قطاع غزة بمساحته الصغيرة، وكثافته السكانية العالية خارطة جديدة على التنظيم في حال اعتمد على عناصر أجنبية في قطاع غزة.
6- إذا كان استقدام العناصر الأجنبية ممكنًا في حالتي سوريا والعراق، بسبب الثغرات الحدودية، وهو ما منحَ التنظيم قوة إضافية، فإن هذا الخيار غير ممكن فيما يخصُّ قطاع غزة الضيق، والمحاصر حدوديًا عن طريق إسرائيل من الناحية البحرية والبرية، أما الأنفاق التي تصل بين قطاع غزة ومصر فالأغلب أنها واقعة تحت سيطرة كتائب القسام وفصائل المقاومة، وهم أصحاب الخبرة في حفرها، إذا استثنينا خبرة بدو سيناء في حفر الأنفاق.
7- إذا كان التنظيم قد استغل حالة انهيار الدولة في سوريا، والدخول في صراع بين الجيش والنظام أولًا، وبين قوى المعارضة لاحقًا، فإن قطاع غزة لا يزال -رغم كل أزماته التي يواجهها- متماسكًا من الناحية الأمنية، تتواجد فيه مظاهر الدولة وروحها من الناحية الإدارية والأمنية، بشكل يجعل من غير المحتمل تقويض هذا النظام أو اختراقه من الداخل.
8- إذا كانت إسرائيل مخيَّرة بين حماس وتنظيم الدولة، فأعتقد أنها ستختار حماس “كعدو نبيل” -كما وصفت السلطات الأمريكية أسامة بن لادن في مقارنة مع تنظيم الدولة، بعد نشرها بعض وثائقه ورسائله- بدلًا تنظيم الدولة كجماعة بربرية وحشية، وعليه؛ فإنها لن تتدخل ضد حماس في حال وجود مثل هذا الصراع، وتحييد إسرائيل؛ وبالتالي عناصر حركة فتح (وهي الثغرة الأمنية الممكنة لحماس) سيدفع الأمور لصالح حماس.
9- إذا كانت سوريا والعراق تشكلان موردًا ماليًا ضخمًا لموازنات تنظيم الدولة من خلال مصافي النفط، وتهريب الآثار، فإن غزة لن تكون سوى عبء مالي لن يفضل التنظيم إن كان لديه ما يكفي من الحكمة، المغامرة من أجله.
10- إذا كان كل من حماس وتنظيم الدولة ينتميان إلى مرجعية دينية (على اختلافهما)، وإن كان التنظيم يبني سرديته الكبرى على نصرة الإسلام، والدفاع عنه ضد الإمبريالية الغربية أو الهيمنة الصفوية الشيعية، فإن مثل هذه المبررات لن تكون ذات معنى في حالة خوض صراع ضد حماس صاحبة التاريخ الجهادي المتأصل دينيًا. صحيح أن التنظيم وقع في خلافات مع فصائل ذات مرجعية دينية في سوريا، بل مع طالبان نفسها في أفغانستان؛ إلا أن خصوصية القضية الفلسطينية، و(النقاء التاريخي) فيما يتعلق بحماس، سيكون عقبةً ليس من السهل تجاوزها إعلاميًا.
كانت هذه عشر نقاط منطقية لتحليل احتمالية العلاقة المستقبلية بين حماس وتنظيم الدولة بعد رسالته المصورة وهجمات سيناء، فلا يمكن حمل التهديد على محمل الجد، ومنطقيًا: فإن أقصى ما يمكن للتنظيم تحقيقه هو عمليات إرهابية متقطعة، تسعى للإخلال بالأمن، لا السيطرة أو التمدد العسكري.
رغم ذلك، فإن هناك ما يمكن قوله أيضًا، ويجب أخذه بعين الاعتبار، وهو أن حكومة حماس تعاني أزمة حقيقية على الصعيدين: الاقتصادي والسياسي، بحيث يشكلان نقطة ضعف بالنسبة لها.
فمن الناحية الاقتصادية، تواجه حماس أزمة مالية خطرة دفعتها للدخول في استشكالات كثيرة، لم يكن أولها فرض ضريبة التكافل التي أثارت حفيظة التجار، ولن يكون آخرها إغلاقها لشركة “جوال” وهي الشركة الوحيدة المغذية لشبكة الهواتف المحمولة بسبب عدم التزامها بدفع الضرائب لحكومتها في غزة، وهو ما سيؤدي إلى تطور هذه الأزمة في الأيام المقبلة، كما أن الأونروا كانت قد أعلنت عن تقليص مساعداتها للقطاع؛ بل وعن احتمالية عدم افتتاح مدارسها في العام الدراسي الجديد بسبب الأزمة المالية، وهو ما سيزيد الأوضاع الاقتصادية والإنسانية تدهورًا، وغالبًا ما ينجح تنظيم الدولة في الازدهار في مثل هذه الأوضاع.
ومن الناحية السياسية، ظهرت بالفترة الأخيرة الكثير من التسريبات حول هدنة محتملة مع إسرائيل، هدنة طويلة الأمد وفق شروط لو وافقت عليها حماس فإنها ستبدي نوعًا من الليونة، سيسهل تفسيره بأنه تراجع من قبل المنتمين، أو أصحاب الميل، للفكر المتطرف، وعليه؛ يمكن أن ينشق بعض مقاتلي حماس لصالح التنظيم، وهو ما سيكرر سيناريو “ضباط البعث” بشكل أقل تأثيرًا؛ لذا، فإن على حماس أن تكون حذرة فيما يخص مسألة التوقيت.
إن المأساة الحقيقية في هذا الصراع هو عدم وجود أدنى حد من الحسِّ الأخلاقي أو العقلاني، الذي يجعل النظام المصري يتحرك بالاتجاه الصحيح معدلًا مساره من معاداة حماس والإخوان إلى التصالح معهم، والوقوف بوجه التنظيم البربري؛ فبدلًا من تهديدات التنظيم وتوسعاته التي يبنيها بسبب ضعف البنية الهيكلية العسكرية والأمنية المكرسة أصلًا لقتال الإخوان والمعارضة، كان يمكن التفكير بطرح استراتيجية مشتركة تشارك فيها الأطراف الفاعلة في المشهد المصري من أجل مواجهة خطر التنظيم.