أبدأ بداية مباشرة فأقول إن الإنجاز في الدول الشمولية له طابع مختلف عن الإنجاز الطبيعي بحيث إذا أردت أن تشرح معنى كلمة الإنجاز في أي معجم عام أو متخصص فلا بد أن تشير إلى هذا المعنى الاستثنائي.
وعلى سبيل التبسيط فإننا نعرف الإنجاز على أنه إتمام عمل شيء في وقت ما بكفاءة ما، وبلغة المعاجم يصبح الإنجاز هو إنجاز العمل مع الإشارة إلى ما استغرقه من وقت وإلى ما اتصف به من كفاءة.
وعلى سبيل المثال نقول إن الإنجاز قد تحقق في وقته أو متأخرا عن وقته بنسبة (نذكرها على وجه التحديد) أو سابقا لموعده، كما نشير إلى درجة الكفاءة فيه تبعا لمقاييس الإنتاج في هذا الميدان من ميادين العمل أو الصناعة أو العلاج أو التأليف أو الجراحة أو التصميم أو الإخراج أو التمثيل.. إلخ.
وهنا يجد واضع المعجم (شخصا كان أم جماعة) أنه لا بد له أن يشير إلى معنى الإنجاز الكاذب، أي الإنجاز الذي يصور للناس على أنه إنجاز بينما هو ليس كذلك، وهنا تتسارع إلى الفكر إنجازات الاتحاد السوفياتي في عهد الركود العظيم حين كان الإنتاج قد بدأ في التدهور النوعي بسبب تضافر عوامل اقتصادية لا يمكن التحكم بها إلا بالشفافية وتفعيل اقتصاديات السوق، وذلك من قبيل تقبل الغش في المواد الخام أو الاضطرار إليه، أو تقبل الغش في المادة الفعالة أو الاضطرار إليها، أو تصنيع معادل وطني في ظل صعوبة استيراد الخامات الأجنبية نتيجة لنقص العملات الحرة .. إلخ.
وتبلغ الطامة ذروتها حين تضطر الدولة الشمولية لأسباب نعرفها ولا نريد أن نتزيد في استعراضها إلى اللجوء إلى سياسة احتكار الإنتاج والخدمات، وهنا يصبح المواطن الذي هو المستهدف بالإنتاج مجرد متلق يتلقى ما ينتج له دون نقاش، على نحو ما هو مواطن صالح يتلقى من السياسة والإعلام ما يملي عليه دون نقاش.
على أن الأمر في ظل هذه السياسات يبقى في حدود آمنة إذا ما كان صاحب السلطة واعيا لما يمكن التجاوز فيه ولما يمكن التجاوز عنه، وهو وعي يتناقض بالطبع وبالمنطق مع الزمن، حين تنفجر الأمور هنا أو هناك فيكتشف أن أحد أقرب الناس إليه توفي بسبب دواء وافق هو نفسه على الغش فيه، أو بسبب مستشفى وافق هو نفسه على تقليل اعتماداته التي توفر أجهزة التنفس الصناعي للحالات الحرجة على سبيل المثال.
ومع أن مثل هذه المعلومات تصل إلى الجماهير مشوهة ومشوشة ومنقطعة الصلة بما حدث بالفعل، فإن تصويرها الخاطئ لا يلغي حقيقتها الجوهرية الموجودة في صورة أو أخرى.
ويبقى المثل الأكبر للإنجاز الفاسد متمثلا في السياسة المخربة التي أنبتها عالم زراعي سوفياتي كان هو وحده سببا في كل أزمات الاتحاد السوفياتي الغذائية والزراعية.
ومن الإنصاف للحقيقة أن نشير إلى أن تاريخنا العلمي في عهد ثورة يوليو لم يكتب حتى الآن بالصورة الدقيقة التي تسمح باكتشاف مواطن الإنجاز الحقيقي ومواطن الإنجاز الزائف فيه، لكن الشعور العام تجاه هذه الفترة يكاد يغلب الانطباع بأنها كانت فترة إنجاز زائف.
ويستند من يقولون بهذا علي أن هذه الفترة لم تترك أثرا علميا في العلم أو التكنولوجيا، ولم تترك مؤسسة يقوم إنتاجها على العلم، كما أنها لم تتحدث عن نجاح اقتصادي قام على العلم وأضاف إلى ثروة الوطن، وقل مثل هذا في مجال المواد الأساسية والخامات، بل في مجال الخدمات والعلاج الطبي والبيطري على حد سواء.
ويبدو أن هذه الصورة العامة قد أجادت التعبير عن الواقع التاريخي لتلك الفترة التي حققت مصر فيها كثيرا من النجاحات الزائفة في مجال السياسة إلى الحد الذي صورت فيه هزيمة 1956 على أنها نصر لا يزال عيده قائما حتي يومنا هذا، رغم وجود نصر حقيقي في مرحلة تالية، كما صورت هزيمة 1967 المروعة على أنها نكسة فحسب، وصورت هزائم اليمن على أنها حرب تحرير أو ثورة.. وقل مثل هذا في كل ما حدث في ذلك الوقت من تلاعب بالمشاعر.. ثم تلاعب بالمصطلحات.. ثم تلاعب بالتاريخ.
وليس من قبيل المبالغة أن تقول إن الصناعة المصرية تعرضت لمثل هذا النمط من السيطرة الفكرية الشمولية، فتدهورت صناعات مصرية كانت قد قطعت خطوات واسعة في سبيل التحقق والإبداع والاعتماد على الذات والمنافسة الخارجية.
ويكفي أن نذكر في هذا المجال الصناعات التي تبناها طلعت حرب كالغزل والنسيج وما فعله شركاؤه ومعاصروه وأقرانه في كفر الدوار وشبر الخيمة والاسكندرية، أو أن نشير إلى إنجازات سيد ياسين في صناعة الزجاج أو إلى إنجازات متعددة لكثيرين في مجال الصناعات الغذائية المتعددة، وفي مقدمتها إنجازات أحمد عبود في مصانع السكر، وإنجازات نايف عماد في صناعة الزيوت.. وهكذا وهكذا.
ولم تنته حقبة الستينيات إلا وكانت مصر تعاني من عجز عن الوفاء باحتياجات المواطنين الأساسية في الغذاء والكساء على حد سواء، وأصبحت كل السلع الأساسية دون استثناء خاضعة لبطاقات التموين، ونشطت السوق السوداء إلى ذرى لم تبلغها من قبل في أي دولة، وتولدت أمراض اجتماعية متعددة لم تكن موجودة من قبل.
وتعدى الأمر هذه السلع المصنعة في مصانع ليشمل سلعا كان المصري حريصا على إنتاجها في بيته أو مزرعته كالخبز الذي أصبح إنتاجه المنزلي يكلف أضعاف سعره في السوق لأن الدولة ببساطة تدعم الرغيف المنتج ولا تدعم الدقيق حتي وإن كان محلي الصنع.
وظلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ حتى أصبحت الحياة في مجملها نوعا من أنواع الوقوف في الطوابير والبحث عن التدابير.
وحدثت الانتكاسات بالطريقة نفسها في مجالي الخدمات الأساسية، وهما الصحة والتعليم، فانعدمت ولا نقول تضاءلت فرص علاج كثير من الأمراض لقلة الأسرة ولغياب الأدوية، ووصفت أمراض معينة بأنها لا علاج لها، وتخلفت مصر عن الدخول في مجالات علاجية جديدة، فكان دخولها رمزيا في ميادين العلاج بالذرة، وكان دخولها متأخرا وعلى استحياء إلى مجالات الغسل الكلوي ومناظير الجهاز الهضمي.. إلخ.
وعلى صعيد آخر عرفت مصر لأول مرة في تاريخها فصولا تضم ما يقرب من الثمانين تلميذا بدلا من العشرين، ومدارس تعمل أربع فترات أو ثلاثا أو اثنتين وندرت المدارس التي تعمل فترة واحدة، ولا تزال آثار التقشف التعليمي سارية في اختصار كثير من ساعات الدراسة حتى يومنا هذا في 2014.
وقد جاء هذا كله لأن معنى الإنجاز المضبوط بالمعايير قد اختفى تماما، ليحل محله الإنجاز ذو القيمة الإعلامية الذي يكون صاحبه قريبا من السلطان، ومن ثم تتيح له قرابته أو قربه أن يبدع في غير مجاله وأن يمارس في غير تخصصه، وأن يكافأ على ما لم ينجز، ويتواكب مع هذا أن يعاقب المنجز وتقلل قيمته حتى تترك فرصة النبوغ لصاحب الإنجاز الزائف.
وليس عجيبا أن ترى في تاريخ المشتغلين بالعلم في فترة الحكم الشمولي وزيرا للبحث العلمي وصل إلى منصب الوزارة لا لأنه عالم جليل (وقد كان بالفعل عالما جليلا) وإنما لأنه هو الذي منح صهر الرئيس درجة الدكتوراه، برسالة أعدها طالب آخر كان زميلا لصهر الرئيس، وتجد سلفه في منصب الوزارة قد وصل إلى منصب الوزارة لا لأنه عالم مجتهد (وقد كان بالفعل عالما مجتهدا) وإنما لأنه كان في الأصل خريج الكلية الحربية، ورأى أن يتحول إلى دراسة العلوم ويتخرج فيها، وكان هذان الرجلان هما وزيري البحث العلمي في عهد عبد الناصر.
وقد تواكب مع هذا الأسلوب في التقدير ومنح النفوذ ما عرف به ذلك العصر من عناية متصلة بتشويه الرموز الذي لا تسير في الركاب، وهي آلية معروفة ينشأ عنها في النهاية أن يصبح صاحب الضوء هو ذلك الرجل الذي يتصف بأنه لا لون له ولا طعم ولا رائحة.
ولأن طبائع الأشياء لا تتوقف عند حد فإن الأمور مضت بحيث أصبح المصري البسيط يتشكك في أي رواية عن أي إنجاز، لأنه اكتوى بالفعل من تصديق الإنجازات في الصواريخ والمراجيح على حد سواء، وقد ترتب على هذا أمران كان كل منهما أخطر من الآخر:
الأمر الأول: هو أنه في ظل عدم العناية بتقييم الإنجاز وإنجاحه، لم يعد أحد يمانع في أن يلجأ أي مدع إلى الزعم بأنه أنجز، فالمنجز أقرب إلى أن يكون مدعيا حتى يثبت صدقه، وهكذا نجد في تاريخ كثيرين من زملائنا ضجة حدثت ذات مرة فلم يتبعوها بضجات أخرى تثبت أنها كانوا قد أنجزوا، وإنما هم اكتفوا من الإنجاز بضربة واحدة ثم وجدوا الطريق صحراويا دون مرافق وأن عليهم أن يعبروه.
الأمر الثاني: أن المجتمع لم يعد يأبه بالدرجة الكافية بعقاب النصابين مكتفيا بالدعاء الفولكلوري الذي تردده السيدات عند ذكر فتاة لعوب, وهو دعاء جميل لا تستحقه اللعوب، لكنه يؤتي أثره في معظم الأحيان، تقول تلك السيدات: ربنا يستر عليها ويرزقها بزوج يحتويها في بيته بدلا من هذا التعدد غير المجدي.
وقد قيل تبعا لذلك إن اللعوبات أكثر حظا من المستقيمات، لأن السيدات المسنات تدعين للصالحات بطول العمر مع أهلها فتكون النتيجة ألا ترزق بالزوج وتبقى مع أهلها.
ولهذا كله فلا عجب من أن يقول لك إنسان يبدو متعلما: إن الاختراع أو الاكتشاف الوهمي ربما يصادف نجاحا.. فالأولى ألا تتعب نفسك في انتقاده.