المقال يعبر عن رآى كاتبه
بقلم / مهند عبد الحميد
استشهاد الشاب الثوري باسل الاعرج في مدينة البيرة قبل أيام، أثار جدلاً فلسطينياً ساخناً ومهماً، وأعاد طرح الكثير من أسئلة الازمة السياسية والمجتمعية، كدور المثقف، ودور التنظيمات، والمبادرات الشبابية، ودور السلطة وأجهزة الأمن والتنسيق الأمني، ودور المعارضة والمعارضين، وأداء القضاء والمحامين، وعناوين أخرى. غير أن أهم مسألتين من وجهة نظري هما أداء السلطة وأجهزتها وموقفها من قضية الشهيد باسل، وتجربة باسل كجزء من ظاهرة شبابية نضالية.العنوان الأول الخاص بالسلطة، والذي يعيد طرح الاستباحة الإسرائيلية للمدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، بدون اعتراض جدي ورفض قاطع من السلطة، ويعني إهدار دور الحماية الفعلي والرمزي المناط بالسلطة التي تحتكر استخدام القوة. ان اقتحام قوات الاحتلال للمدن وقيامها بقتل مقاومين وباعتقال سياسيين وشبان، يضع سؤال الحماية المفترض المطلوب من السلطة بحسب الوصف الوظيفي في القانون الأساسي على محمل المساءلة، ويضع صفر سيادة للسلطة على تلك المدن التي من المفترض ان تكون السيادة فيها للسلطة بحسب اتفاق اوسلو على محمل إعادة النظر. لا شك في أن نتيجة صفر سيادة، ونتيجة عجز كامل عن الحماية يؤدي الى نسف وتقويض الثقة بين المواطن والسلطة، والاكثر سوءاً ان تكرار مثل هذا المشهد في هذه المدينة او تلك يخلق نوعا من المهانة الوطنية لعموم المواطنين.
عندما تقوم سلطات الاحتلال بتقويض كل مقومات الدولة الفلسطينية المنشودة، وتعمق الاحتلال والاستيطان وتواصل أشكالاً من الضم والتهويد، ونهب الموارد وبخاصة الارض، بالتزامن مع نزع معظم صلاحيات السلطة، ومع إعادة دور الإدارة المدنية التي استعادت كل صلاحيات السلطة ما عدا الأعباء والتنسيق الأمني. كان قبول قواعد اوسلو سابقاً يُبرر ويجد له آذاناً صاغية من قبل أكثرية المواطنين، بوجود عملية سياسية هدفها إنهاء الاحتلال والاستيطان وإقامة دولة مستقلة. أما الآن، فقد تبخرت أهداف العملية السياسية وبقيت قواعدها قائمة وتفعل فعلها محدثة اختلالا في العلاقة بين السلطة والمواطن، ومثبطة صون المواطنة والدفاع عن كرامة البشر.
وإذا كان تدمير الأهداف الوطنية الفلسطينية على الارض وبقاء قواعد اتفاق أوسلو يفضي الى مأساة حقيقية، فإن محاكمة الشهيد باسل الاعرج قبل ان يجف دمه ويعاد جثمانه، ومحاكمة رفاقه الشبان الخمسة المعتقلين في سجون الاحتلال بتهمة "امتلاك سلاح دون ترخيص"، وقمع الاحتجاج السلمي المحتج على المحاكمة، يعد مهزلة بكل معنى الكلمة. لقد افتقدت المحكمة لحساسية التعامل مع مشاعر ونبض المواطنين، وتعاملت بشكل مجرد وحذافيري واستفزازي في قضية تندرج تحت بند مقاومة احتلال متوحش ورافض لكل الحلول السياسية. ولم يكن حال قوى الامن التي قمعت الاحتجاج السلمي على المحاكمة بأفضل حالا. لا يعقل لسلطة غير قادرة على انهاء الاحتلال بالتفاوض خلال ربع قرن، منع مقاومته من قبل الذين يتعرضون للاذلال والقهر والقمع. من حق السلطة والقوى الاخرى البحث عن حل سياسي ينهي الاحتلال، واستنفاد كل المساعي وصولا لذلك الهدف. ومن الطبيعي أن يحتاج قرار المقاومة المسلحة واعتماد الشكل الرئيسي للنضال، والدخول في حرب مع دولة الاحتلال إلى إجازة من المرجعية التمثيلية. ولكن عندما يغيب الحل السياسي الذي ينهي الاحتلال، ويغيب النضال الجمعي المشترك والمنظم (الانتفاضة)، وتغيب حماية المواطنين في مواجهة الاستباحة الاسرائيلية، فإن قمع الشباب المبادرين للمقاومة يفقد كل مسوغاته ويؤدي الى تغليب التناقض الداخلي على التناقض مع الاحتلال.
ما حدث بالأمس من احتقان داخلي فلسطيني، يستدعي إعادة النظر، في حرية قوات الأمن الاسرائيلية في استباحة كل مكان، فمن المفترض وجود أماكن آمنة كالمدن والمخيمات والبلدات يحظر دخولها من قبل القوات الاسرائيلية. وفي حالة دخولها فإن السلطة مسؤولة عن حماية المواطنين، وغير مخولة باعتقال ومحاكمة المقاومين. وفي الجهة الاخرى فإن ما حدث يستدعي وقف ومحاسبة الجهة القانونية التي تابعت محاكمة الشهيد باسل ورفاقه المعتقلين في السجون الاسرائيلية وكأن شيئا لم يكن. والتحقيق مع المنفذين والمسؤولين عن قمع المحتجين امام المحكمة. أما التنسيق الأمني الذي كان يعني تنسيق عملية الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي الفلسطينية وتسلم السلطة مسؤولياتها كسلطة بديلة عن سلطة الاحتلال، هذا الدور الوظيفي انتهى تماما في ظل عملية تعميق الاحتلال ومضاعفة الاستيطان، وفي ظل نزع معظم صلاحيات السلطة. لم يبق للتنسيق أية وظيفة فلسطينية ودولة الاحتلال تريد تقديم هذه الخدمة بالمجان وفي مواجهة المصلحة الوطنية.
العنوان الثاني، تجربة باسل التي هي جزء من ظاهرة شبابية نضالية تحاول ملء الفراغ الذي خلفته الحركة السياسية بكل مكوناتها. تجربة باسل تميزت بمحاولة حفر مجرى نضالي "غيفاري" منظم، محاولا تخطي الفردية ورد الفعل الفردي، والاعتماد على دعم الناس وثقتهم ومشاركتهم في النضال، حاول ان يُعرف الشباب على ثورة 36 وعلى دور جنود وضباط الجيش العراقي في دعم ثورة الشعب الفلسطيني، وكان التعريف بالذهاب للمكان والحوار وطرح الاسئلة. وفي حين أخفقت الغيفارية والرومانسية الثورية " تجربة باسل " وتجارب أخرى، في بلد تحول الى سجن كبير وبنتوستونات فصل عنصري تقع في قبضة أمنية إسرائيلية. اخفقت مجموعة باسل "الرومانسية الثورية " في اللحظة التي مزقوا فيها بطاقات هوياتهم ورموها قرب الحاوية في مدينة رام الله وصعدوا الى الجبل. لكن محاولة باسل شق طريق جديد للمقاومة الشعبية، اتسمت ببعدين، بُعْد المثقف الذي ينخرط في النضال بدءا بقراءة تجارب شعبه وتجارب الشعوب الاخرى ويحاول استلهام دروسها، وبُعْد آخر هو، ثقافة الاعتماد على الذات وعلى الموارد البسيطة التي يملكها الناس. بُعدان لم يكتملا نظرا لغياب الحاضنة الثقافية، ولضعف التنظيمات السياسية وتحديدا تنظيمات المعارضة التي راوحت في المكان وانعزلت عن الأجيال الجديدة.
مبادرة وتجربة باسل فيها غنى وبطولة وهي تحاول تحريك المياه الراكدة شأنها في ذلك شأن مئات الشبان الذين حاولوا فتح الانسداد النضالي بطريقتهم الخاصة، خسرنا باسل وخسرنا مئات الشباب، وتم الاكتفاء بالتغني بشجاعتهم وإخلاصهم. وخلت عملية الاعجاب والتأييد من محاولة بناء جسور وحاضنات داعمة ونقل ثمار التجارب السابقة لهذا الجيل، ومحاولة دراسة هذه الظاهرة ونقلها من العفوية والرومانسية والفردية الى نضال مشترك منظم بأهداف وطنية خالصة.