بقلم: واسيني الأعرج
ليس للتخويف، ولكن لأن الأمر جدي وخطير أيضاً، نحتاج إلى صراحة أقوى لإسماع صوت التبصر والعقل والحق. تعيش الجزائر اليوم وضعاً حاداً كان مرتقباً منذ سنوات، إلا أنه بالنسبة للذين ينامون ويستيقظون على خداع المرايا، كل شيء بخير. لقد وصل التردي إلى حالاته القصوى، إذ لا حل ثالث يضمن استمرار الجزائر؛ إما الاستماع إلى نداءات العقل التي تأتي من كل الجهات، وعدم التخفي في العدو الأجنبي المفترض، أو الدخول في دوامة خطيرة لا أحد يتكهن بنتائجها وتجلياتها ونهاياتها.
الشعب اختار أن يعبر عن صوته بخروجه إلى الشارع، مخترقاً كل حواجز المنع الذي ظل مدة طويلة مسلطاً عليه بحجة الأمن العام، لكن هذه الحجة التي وجدت مبرراتها الموضوعية، في البداية، عمّرت كثيراً ولم تعد تعني الشيء الكثير بالنسبة للمواطن، سوى أنها تحولت إلى وسيلة لتكميم أية إرادة وطنية للتغيير أو الاحتجاج، أو لنقل لم تعد تهم غالبية الشعب في وضع عام زاد تردياً واختناقاً حياتياً واقتصادياً، من خلال التفقير العام، والتبئيس، والتحقير، واستفادة حفنة تتخفى وراء الخطابات المعسولة التي لم تعد تعني أحداً سوى الذي يري نفسه في مرايا النرجسية السياسية ويسعد بأن خطاب النهب والموت ما يزال مستمراً، ولا يزال أيضاً يعطي ثماره. وخطاب الوطنيات الزائفة يستثمر بشكل كامل.
نعم، عشرية الرماد التي عاشها الجزائريون أعطت للنظام فرصة لا تعوض لكي يصلح من حاله، لكنه لم يفعل، فقد ظلت الحالة السياسية نفسها، بل زاد درجةً أخرى في استغباء المجتمع إلى حد لم يعد ممكناً فيه تقبل حالة التبئيس. حقيقي أن المال، جزءاً من المال العام، ذهب نحو المشاريع القاعدية الكبرى، كالطرق السريعة والسكك الحديدية، والسدود الضخمة، والمطارات، والجامعات وغيرها، وغيرها، وعلى قيمتها الاستراتيجية المهمة والحيوية يجب ألا تتحول إلى دخان يغطي الغابة. فقد نشأت داخل هذه التحولات البنيوية القاعدية المهمة مجموعات بشرية من داخل النظام لا تختلف كثيراً عن شخصية البوشي الذي لم يكن في النهاية إلا الثمرة المرة لهذا النظام نفسه. وجعلت المجموعات المتنفذة داخل النظام من رهانات التحولات القاعدية فرصتها المشروعة للسرقة والنهب، في غياب أية متابعة تقنية أو قانونية شرّعت لنفسها كل شيء بلا حساب ولا رقابة. وضمن نظام مافياوي حقيقي، ارتكزت على بعضها البعض، وهو ما يجعلها اليوم متكاتفة مصيرياً، من أصغر موظف في البلدية إلى أكبر المسؤولين في جهاز الدولة، وكل من يفتح فمه، ممن بقي فيهم بعض الضمير الوطني أو المواطناتي، يخرصون نهائياً بمختلف الوسائل، من التهديدات بمختلف الوسائل القمعية الفضائحية، كالفيديوهات الخليعة، حتى التهديد بالفصل والتشريد وربما القتل أيضاً. للأسف، حتى ولو كان داخل هذه الدوائر بعض من أوفياء الحق، فإن فساد النظام كآلة مرئية ومهيمنة على كل القطاعات، غطى على كل شيء إيجابي فيهم.
تأمل بسيط للوضع الجزائري يرسم بدقة الحالة الخطيرة التي قادت هذه المرة ليس إلى المظاهرة السلمية فقط، ولكن إلى كسر «تابو» المنع الكلي للمظاهرات في العاصمة. لم يستطع الأمن من أن يمنعها ولا أن يحد من قوتها كما تعود أن يفعل. وهذه حالة إيجابية، فكانت المظاهرة الضخمة سلمية كلياً، لم تسجل فيها أية حادثة وفاة، وعبر الناس بحرية عما خرجوا وتوحدوا من أجله. لكن حذار، وحذار مرة أخرى، كسر الممنوع ضرورة تاريخية، لكنه إذا لم يصحب باستجابات حقيقية للمطالب يمكن أن يقود إلى ما هو أعظم وأخطر. النظام في الجزائر، من حيث بنياته الأساسية، لا يختلف أبداً عما هو موجود في العالم العربي، أصم وأبكم وأعمى حتى النهاية. يفضل أن يرث الخراب والحليب الدموي المر على الإنصات إلى ما يدور داخل المجتمع من صراعات.
لا توجد دولة إلا في شكل القشرة الخارجية، بعد أن نخرها الفساد، فأصبحت الدولة = النظام، والنظام= الدولة، يعني أن انهيار النظام قد يؤدي بشكل متسارع إلى انهيار الدولة، ما يفتح أبواب جهنم على الجزائر، وقتها لن يكتفي المضربون بالتخندق في الساحات العامة وتجنب الاصطدام مع الأمن، ولكن قد يحتلون أماكن حيوية واستراتيجية كما في الحالة المصرية، قبل قبول مبارك بالاستقالة. من المؤكد أن الحالات تختلف، ولكن الاستماع إلى نداءات الشارع والتبصر وعدم إغلاق أبواب الحوار أكثر من ضرورة، لأنه يمكنه أن يمتص حالات الاحتقان. ولا بد أن تجد الحكمة مكانها والخروج من دائرة المناورات الصغيرة التي تحمِّل الشارع المسؤولية التي قد تضع البلاد أمام مخاطرة جمة ستكون نتائجها أكثر من قاسية على الشعب الجزائري، ولكن أيضاً على وحدة البلاد. كل شيء على كف عفريت.
عندما طُلب من بعض المثقفين، بشكل فردي، المساهمة في مناقشة الدستور بكتابات وآراء لإغناء الدستور الجديد، قبل سنوات قليلة، كانت لي مآخذ كثيرة على الدستور الجديد، لكن قلت لا يهم. هناك تحولات عميقة تحدث في البلد تجب مصاحبتها ثقافياً. استفدت، في رأيي الذي بلورته، من النموذج الدستوري الأمريكي في قضيتين مترابطتين كانتا مصدر مساهمتي. أعرف سلفاً عقلية العربي أو العالم ثالثي في علاقته بالحكم، لا يشبع من الحكم. جُبل على الأبدية، كما لو أنه إله صغير. لهذا ارتأيت أن تكون الولاية سبع سنوات بدل خمس. لولايتين، ويتم القسم عليهما في التنصيب لتفادي تجديد دورات الولاية خارج الدستور. أربع عشرة سنة من العمل مهمة جداً في حياة أمة من الأمم. واقترحت بشكل ملح استحداث منصب نائب الرئيس، وكتبت ذلك في «القدس العربي» يومها، ويجب أن يُعرف هذا النائب أثناء الانتخابات الرئاسية، ليس منصباً صورياً كما هو في العالم العربي اليوم، ولكنه حيوي لشخص يعرف كل الملفات، مثل الرئيس، ويبرز دوره بشكل فعال في حالات شغور المنصب الرئاسي بسبب العجز الكلي أو الوفاة، إذ له الحق قانوناً في إتمام مدة العهدة. ولأني أعرف مسبقاً الفردانية المميتة المتأصلة في أنظمة الحكم العربية، الجمهورية تحديداً، وعدم ثقة المجموعات في بعضها البعض، لم أنتظر من المؤسسة السياسية الاستجابة للمقترح. للأسف، كان في إمكان الجزائر أن تخط طريقاً ديمقراطياً جديداً، تكون رائدة فيه عربياً، لكن الأنانيات الصغيرة دمرت كل شيء. الحقيقة الوحيدة الماثلة بين أعيننا هي أن الجزائر على حافة مخاطر مدمرة، لا أحد يعلم بمآلاتها التراجيدية، لا خيار، إما أن تذهب نحو الحائط أو تنتقل نحو جمهورية ثانية لا تشبه في شيء الجمهورية الأولى سياسياً.
صحيفة القدس العربي
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"