بقلم: علي الجرباوي
تئن الولايات المتحدة حالياً تحت وطأة انتشار فيروس كورونا بين مواطنيها، مُوقِعاً بينهم أكبر عددٍ من الإصابات والوفيات في العالم حتى الآن. وفي لهاثٍ محموم، ولكنْ مضطرب، تحاول أميركا السيطرة على هذا الانتشار. ولكن تأخرها بالاستعداد، من جهة، وتآكل قدرة جهازها الصحي على التكيّف والمواجهة بسرعة وفاعلية وكفاءة، من جهة ثانية، لم يمكنّها حتى الآن من ذلك، بل كشف عن وهنٍ لم يكن متوقعاً من الدولة العظمى التي تتربع على قمّة الهرمية الدولية، والتي كان من المفترض أن تقود العالم في محاربة هذا الوباء. وقد أدى هذا التخبط في الأداء، وتآكل القدرة الأميركية، إلى إبراز مدى التراجع الذي تعاني منه تلك البلاد داخلياً. واعتبر العديد من متابعي الشأن الدولي أن هذا التراجع يدّل على ضعف وانحدار مكانة الولايات المتحدة في المنظومة الدولية، وأن عصر ما بعد «كورونا» سيشهد تغيّراً في تراتبية الدول على الصعيد الدولي. وهناك من ذهب أبعد من ذلك ليتوقع فقدان أميركا لميزتها التفاضلية أمام صعود محتمل لدول أخرى، أهمها الصين، داخل هرمية النظام الدولي.
قد يكون توّقع حدوث تغيّر سريع في بنية النظام الدولي أمراً مبالغاً فيه، ولكن ملاحظة تراجع مكانة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي صحيحة، حتى وإن كانت حتى الآن لا تزال تحتل مكان الصدارة. فهي دولة منهكة، كانت عظمى في القرن العشرين، وتحاول جاهدة أن تحافظ على موقعها في القرن الحادي والعشرين. ولكن اختلالات بنيوية داخلية، تضاف لها منافسة خارجية محتدمة، تضع أمام تحقيق هذه المهمة الكثير من العراقيل.
كانت أميركا طوال القرن العشرين مترّبعة على رأس الهرمية الدولية. فقد خرجت من الحرب العالمية الأولى باقتصاد حيوي متين، يُشّكل في ناتجه نصف اقتصاد العالم، وبقدرة عسكرية تتفوق على غيرها من الدول. وبرغم انتكاسة أزمة «الكساد العظيم» في العام 1929، خرجت أميركا من الحرب العالمية الثانية دون أن تتعرض للدمار الفظيع الذي أحاق بأوروبا، لتصبح زعيمة «العالم الحر»، مقابل الاتحاد السوفياتي وكتلته الشرقية، في نظام دولي قام على ثنائية القطبية. ولمدة 45 عاماً احتدم الصراع بين القطّبين في حربٍ باردة، وأزمات متفجّرة متلاحقة، وحروب بالوكالة، ما فرض على أميركا ضرورة استمرار الاستعداد لتبقى جاهزة ومتأهبة للمواجهة، من جهة، ولكن بانضباط وتحسّب من قوة الدولة العظمى الأخرى، من جهة ثانية. لقد كان توازن القوة عاملاً مُحفّزاً وكابحاً للطرفين، في آن.
تمتعت أميركا خلال تاريخها، خاصة أثناء فترة ثنائية القطبية الدولية، بمزايا عديدة منحتها أفضلية تمييزية على غيرها من الدول. فهي دولة غنّية بمواردها ومصادرها الطبيعية، قصيّة ومحميّة، بمحيطيْن وجارتيْن ضعيفتيْن، لا يعوزها القلق من صراعات تدور في محيطها، أو من ضرورة التحسّب من إمكانية الاعتداء عليها من أعدائها (تعرضت في تاريخها لاعتداءين فقط: قصف اليابان لميناء بيرل هاربر خلال الحرب العالمية الثانية، وهجوم 11 سبتمبر 2001). وقد أعطتها هذه الخاصية من تزاوج الشعور بالأمن والغنى أن تصبح «أرض الأحلام والفرص السانحة» للطامحين من مختلف أرجاء العالم. فعرضُها المستند على القيم الليبرالية والرأسمالية الاقتصادية كان جذّاباً للعديدين، كونه يقوم على صون الحرية الفردية، ودعم الديمقراطية السياسية، واستقلالية تنافسية انفتاح السوق. لقد كانت هذه هي «الخلطة» التي بُني عليها «الحلم الأميركي» الواعد بمستقبل أفضل، وأصبحت أميركا بموجبه موئلاً لكل من أراد تحسين فرصة حياته. وقد منحها ذلك سيلٌ متصّلٌ من المهاجرين الطامحين والمتفائلين بتغيير نوعية حياتهم للأفضل، فرفدوها على مدى تاريخها بعقولٍ مبتكِرة، ورغبة في الانخراط والتغيير، وطاقة متجددة على العمل والإنتاج. وعلى هذه القاعدة، وبفعل هذه الطاقة والدينامية، حققت أميركا تقدّمها، وصعدت إلى أعلى قمة الهرمية الدولية.
استخدمت أميركا هذه الطاقة المتجددة لشحن اقتصادها ليبقى متفوقاً على نظيراتها في العالم. ومع أن حصتها من الإنتاج العالمي بدأت بالتقلص التدريجي، حتى أصبحت الآن تقل بقليل عن الرُبع، إلا أنها مع ذلك بقيت تحتلّ المركز الأول اقتصادياً في العالم. وقد ساعدها في استمرار هذا التفوق قدرتها التكنولوجية المتجددة والقائمة على مفاعيل الابتكار. لقد بقيت أميركا طوال فترة القرن العشرين، وحتى العام الماضي، أكثر دولة مبتكرة في العالم، وأعلاها في تسجيل براءات الاختراعات. وبحيوية اقتصادها وقدراتها الابتكارية، تمكنت الولايات المتحدة من تدعيم قدراتها العسكرية، لتصبح المتفوقة دون منازع على غيرها من الدول. تنتشر لأميركا 800 قاعدة ونقطة ارتكاز عسكرية في أرجاء العالم، وتجوب أساطيلها المحيطات والبحار، ويضم سلاحها الجوي أكبر ترسانة من الطائرات الحربية الحديثة والأسلحة الذكيّة الفتاكّة. وبالتالي، جمعت أميركا لنفسها العناصر الأساسية لامتلاك القوة: سياسياً، واقتصادياً، وتكنولوجياً، وعسكرياً، إضافة إلى قوة جذبٍ ناعمةٍ، ولكن قوية.
الدول دائماً ترعى مصالحها، والدول الكبرى دائماً ترعى مصالحها بشكلٍ أكبر من غيرها، وبصورةٍ أوضح لما تمتلكه من مصادر قوة، فتُسخّر كامل إمكانياتها للتنافس مع غيرها، وكسب الصراع لتحقيق مصالحها. قامت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بدفع تحقيق مصالحها في العالم قُدماً. فقد كانت بحاجة لمصادر وأسواق تُبقي على عجلة اقتصادها متحركة ومزدهرة. وقد نجم عن ذلك قيامها بحروب، وتنظيمها لأخرى بالوكالة، وهندسة انقلابات عسكرية، ودعم أنظمة حكم أوتوقراطية لا تحظى بمقبولية شعبها. لم تكن أميركا تُصّدر للعالم خارجياً، ما كانت تدّعيه من قيم إيجابية تُشّكل لها أساس «الحلم الأميركي» داخلياً. فعندما تواجه الدول الاختيار بين القيم والمصالح، تختار تحقيق المصالح، وتحاول تغليفها – إن أمكن ذلك - بالقيم. ولكن من المهم الانتباه أن اندفاع أميركا لتحقيق مصالحها خلال مرحلة ثنائية القطبية الدولية لم يكن منفلتاً، بل كان – كما ذُكر أعلاه - منضبطاً ومقنّناً بضرورة الأخذ بالاعتبار مصالح ومواقف القوة العظمى الأخرى؛ الاتحاد السوفياتي، وما كان يؤدي له ذلك من مواءمات وتقييدات.
بتفكك الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي ما بين عامي 1989- 1991، تحوّل النظام الدولي من ثنائي إلى أحادي القطبية، وأصبحت أميركا منذ ذلك الحين الدولة العظمى الأولى والوحيدة في قمة الهرمية الدولية، متفرّدة ومهيمنة على مجريات السياسة الدولية وتصريف الشؤون الدولية. ومع أن ذلك منحها حرية التصرف بدون الكوابح التي كانت مفروضة عليها في المرحلة السابقة، إلا أنه وضع عليها أعباءً ثقيلةً لم تكن تتوقعها، أو مهيأة لها. فمع تحوّل العالم ليصبح ساحةً مفتوحةً لها لتحقيق مصالحها، وقعت عليها لوحدها مسؤولية تنظيم شؤونه، وضبط علاقات فواعله السياسية مع بعضها البعض. وهذه مهمة شاقة ومتطلِّبة، خاصة وأن الدول الكبرى الأخرى آثرت أن تترك الميدان وتنسحب لتركّز اهتمامها على معالجة مشاكلها وتطوير أوضاعها، تاركة الدولة العظمى؛ أميركا، تُرهق نفسها وتستنزف مواردها في التدخلات.
عانت أميركا خلال العقود الثلاثة الماضية من معضلة تمدّد قوتها. فقد أصبح مطلوباً منها، وليس من أحدٍ غيرها، معالجة كل قضية تنشأ على الساحة الدولية. وللحفاظ على مصالحها المنفلتة بعد غياب القوة العظمى الأخرى، تورّطت في حروب جديدة قاسية، وفي مواجهة دولٍ نعتتها بـ»المارقة»، والتصدي لجماعات إرهابية متعددة، والسيطرة على انفجار ظاهرة العولمة والتحكم بنتائجها، وفي محاولات يائسة للحدّ من منافسة دولٍ كبرى صاعدة لها. وقد أدى كل ذلك إلى انغماس أميركي متزايد في محاولة ضبط إيقاع نظام دولي فوضوي، لا ينحكم لضوابط أو ينتظم لإيقاع محددات وكوابح توازن القوى، والتي تُشّكل الأساس لاستقرار النظام الدولي، وللتشاركية (التعاونية أو التنافسية) في تنظيم الشؤون الدولية. لقد أصبحت أميركا وحيدة، تحاول ضبط انفلاتات نظام دولي جديد غير منضبط.
ومما زاد الطين بلّة وصول ترامب للرئاسة الأميركية. فقد تصّرف في الشؤون السياسية الدولية بطريقة متغطرسة، هوجاء وخرقاء، محاولاً بسط الهيمنة الأميركية باستخدام أساليب التخويف والوعيد وإصدار التهديدات. وقد أدى أسلوبه الاستعلائي الفجّ وسياساته الاستعدائية إلى تذّمر المنافسين وتململ الحلفاء. فقد شنّ حرباً تجارية على الكلّ، وضد الكلّ، وطالب حلفاء أميركا بزيادة دفع الأتاوات، وصعّد من لهجته في الاستهزاء، ما أدى إلى اتساع رقعة التململ الدولي العام من كل هذه الاستفزازات.
وانفجرت محنة وباء كورونا، وعندما وصلت إلى أميركا كشفت عن عمق تدهور الحالة الداخلية للبلاد التي استُنزفت في الصراعات الخارجية. فقد أظهرت للعيان مدى تقهقر ليس فقط كفاءة النظام الصحي المتهالك نتيجة حجب الأموال اللازمة لتطويره على مدى سنوات عديدة، وإنما تخلُّف البنى التحتية بمجملها في البلاد، وخصوصاً إذا ما قورنت بالتقدم المتحقق في بلدان أخرى في العالم. كما وبيّنت مدى اتساع الفجوة في المداخيل بين الطبقات والأعراق، وفشل الدولة في ردم الهوّة نتيجة تحكم نظام ماليّ يعاني من اختلالات بنيوية جوهرية، في ظل ديْن قومي متعاظم لم يعد بالإمكان السيطرة عليه، ونظام سياسي معطوب بانقسام عميق، ونزعة عنصرية انغلاقية تتفشى في البلاد.
هل يقودنا كل ذلك إلى نعْي مبكر لمكانة الولايات المتحدة على قمة هرم النظام الدولي؟ بالتأكيد أن مكانة الولايات المتحدة تشهد تراجعاً الآن. وبالتأكيد، كذلك، أن هناك منافسين يسعون لتحقيق تشاركية جديدة مع أميركا، إن لم يكن تخطيها في السباق. ولكن يجب الانتباه إلى أنه مع كل التحديات الكبيرة التي تواجهها، ومن المحتمل أن تطيح بمكانتها المتفردة في النظام الدولي، فإن لأميركا ميزة مهمة يمكن أن تساعدها على تأجيل هذا التهاوي، أو حتى على مجابهته وصدّه بنجاح. تكمن هذه الميزة في حيوية وليونة نظامها السياسي، والذي يقوم على أساس الحركة المستمرة، ما يسمح بإمكانية التأرجح السياسي من جهة إلى الجهة المقابلة، كبندول ساعة الحائط الذي لا يتوقف عن الانتقال من جهة إلى أخرى، إلا إذا تعطلت الآلة ذاتها وتوقفت دواليبها عن الدوران.
يسمح النظام الانتخابي الأميركي بتجديد النظام السياسي وتحديد الوجهة المستقبلية للبلاد كل أربع سنوات، ما يفتح الإمكانية لمراجعة المسار السابق وتعديل الاتجاه، وخاصة فيما يتعلق بتحديد التوجهات المتعلقة بالسياسة الخارجية. المرونة والمراجعة والقدرة على التعديل هي مواصفات تميّز النظم الديمقراطية عن النظم التوتاليتارية (السلطوية أو الديكتاتورية). لذلك توجد دائماً احتمالية يمكن معها لأميركا أن تستخلص العبر وتتمكن من تعديل المسار. لذلك علينا أن نترقب ونرقُب الانتخابات الرئاسية القادمة بكثير من الاهتمام، لأن في نتائجها يكمن أحد أهم مفاتيح تحديد الاتجاه. فإما إطالة شيخوخة هذه الدولة العظمى على قمة الهرمية الدولية لعقدين أو ثلاثة، أو تسارع انحدارها عنها في بضعة أعوام.
عن صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"