يعرفه الباعةُ في زقاق حارة الياسمينة بالبلدة القديمة بنابلس، شابٌ طويل القامة صاحبُ بسمةٍ لا تفارق وجهه، ينادونه بكنيته بـ "أبو يامن" كلما مر بقربهم بلباسٍ مدني أو عسكري رفقة مقاتلي "عرين الأسود"، عفويٌ بتعامله مع محيطه وأصدقائه فسكن قلوب أبناء "جبل النار"، وفي نظرةٍ أوسع عن شخصيته، صلب، شهم، شجاع، شرس على جنود الاحتلال، لم تثنِه كثرة الاعتقالات ولا التهديدات المستمرة عن طريق المقاومة، فكان رافضًا خيار الاستسلام للاحتلال.
تامر الكيلاني، شهيد وقبل ذلك مطارد وأسير رحل وحمل معه ثلاثية المقاومة الفلسطينية، عرفته السجون، وغرف التحقيق، كما عرفته جدران "حارة الياسمينة" التي كانت تمنحه الأمان ويمنحها هو، عرفته أجهزة مخابرات الاحتلال التي تعقبته كثيرًا حتى وصلت إليه واغتالته في البلدة القديمة بزرع عبوة ناسفة على دراجة نارية مركونة في الطريق، انفجرت لحظة مروره بجوارها، ليكتب وصيته الأخيرة بالدم.
في الخامس من مارس/ آذار 2020، غير الكيلاني صورته الشخصية على فيسبوك، وأرفقها بعبارةٍ تعطي نظرةً أقرب عن طبيعة شخصيته: "ما زال بوسعي خوض ألف حرب جديدة لتحقيق ما أريد"، أصبح المنشور يفصل بين الحياة والموت، ففي بدايته أثناء نشر الصورة، يمدحه أصدقاؤه ويمدحون إطلالته وبسمته وأناقته، وفي نفس المكان عاد هؤلاء لينعوه شهيدًا ويلقون السلام على روحه.
رفض الاستسلام
في ملف التعريف على صفحته كتب وكأنه ينظر للمستقبل ومدركًا النتيجة الحتمية: "في يوم من الأيام ستكون فخورًا بنفسك، لأنك رفضت فكرة الاستسلام"، ورفض في منشور تفاعل معه رواد مواقع التواصل وتناقلوه على مستوى واسعٍ، ترك السلاح، فكتب: "أسوأ ما أنجبت البشرية شخص محايد، في أمة يخوض فيها الحقُ صراعًا مع الباطل".
لم يتجاوز الكيلاني 33 عامًا، وهو أب لطفلين: "يامن" عام ونصف، ووتين (شهران)، اعتقله الاحتلال عدة مرات بلغت في مجموعها ثماني سنوات بهدف ردعه عن مواصلة طريق المقاومة، لكنه في كل مرةٍ كان يزداد صلابة، تأثر باستشهاد إبراهيم النابلسي وكانت نواة لانضمامه لمجموعة "عرين الأسود" الذي أصبح أبرز كوادرها، وأشرسهم على الاحتلال ومستوطنيه.
لم تحيده سنوات الاعتقال عن ساحة المعركة، فعاد إلى الاحتلال بـ "عرين أسود" وصلت مسامعها وأثرها إلى قلب دولة الاحتلال وقضّت مضاجع مستوطنيه في نابلس، حتى باتوا يحسبون لخطواتهم ألف حساب.
في مشهد استقباله، تحاول أمه حبس دموعها حتى لا تظهر في لحظةِ انكسار، ممتثلة لوصيته "ألا تبكي وأن تستقبله بالزغاريد"، إلا أنّ دموع حزنها التي هربت من حواف عينيها وهي تنظر لجثمانه مسجًّى أمامها كانت أكبر من تلبية الوصية.
في صورةٍ أخرى يرسمُ الحزن خطًّا من الدموع على تجاعيد وجه جدته، أثقل الفقدُ كاهل العمر، فأسندت رأسها إلى كتف أحد أبنائها.
في الجنازة حمل والده نعشه، في مشهدٍ تتبدل فيه الأدوار، فطالما يسير الأبناء بآبائهم نحو المقابر، إلا في فلسطين تختلف حسابات العمر، الشباب يتسابقون نحو الشهادة، والآباء يزفون أبناءهم إلى الجنان، حوله المشيعون يهتفون بصوتٍ واحد بـ "بالروح وبالدم نجود، رجالك يا عرين الأسود"، يطالبون بالثأر: "يلي بتضرب عالأقسام سمعني صراخ اليمام".
شهادة جديدة
ترافق الدموع صوت أمه، وعبارات الفخر كذلك في خروجه الأولي أمام عدسات الكاميرات في بيت امتلأ بالمعزين: "أصدقاؤه لن ينسوه، ابني مرضي، لم يقدروا عليه، كنت أتصل عليه كل يوم وهو عائدٌ كان مقدامًا مقبلًا ولم يكن في يومٍ مدبرًا، نال الشهادة".
تنظرُ إلى محيط النسوة حولها، بوجهها المحمر المغرق بدموعها: "ابني اليوم خريج، نال أعلى شهادة، رجولة وشهامة بجدارة، ورضا والديه والناس بجدارة، لم يحصل على "مقصرٍ"، كنت أقول له: ابنك، مرتك، أمك! لكنه رفض التراجع وكان يرد علي: أنا لله، ولا شيء آخر".
يلسع صوتها وجع الفقد: "الله يرضى عليك يا ولدي بكل قطرة نزفت منه"، تضع يدها على قلبها الذي شقه الفراق، تسأل الله الصبر وتودع ابنها، مستذكرةً صفاته: "حنون، شهم، طلبها ونالها، تامر.. الله يكرمك يا ولدي كما أكرمتني، ويفتح لك أبواب الجنان".
تتضرع إلى الله أن يتقبله: "ابني جايلك عريس يا الله".
الساعة الحادية عشرة مساءً، هرعت زوجته "شيماء" إلى الهاتف بعد صوت اتصال، تتمتم مع نفسها: "يارب يكون تامر"، تجتاح روحها رجفة قلق، سألته: "حترجع على الدار!؟"، لم يعطها ما يبرد قلبها لكنه طلب منها التضرع إلى الله: "قولي يا رب، واللي مع الله، ما بنساه"، لم ينسَ طفليه من آخر اتصالٍ بينهما: "دير بالك على الأولاد".
استيقظت شيماء على صوت انفجارٍ أيقظ سكان البلدة القديمة بنابلس كذلك، لكنها رأت المشهد بشكل مختلف، رأت خيال زوجها بكفن، وتخايل إليها صورته في السماء، مرةً أخرى استنجدت بالهاتف المحمول ليخرجها من قلقها، اتصلت به مرة، واثنتين وثلاث، وكررت الاتصال، لكن "الهاتف في كل مرةٍ كان مغلقًا".
أرسلت له رسائل على تطبيقات "واتساب، وماسنجر"، بعثت له رسالةً صوتيةً في أكثر شيء يحبه: "يامن ووتين اشتقولك، رُد عليهم"، دون جدوى، فقادها قلبها إلى المشفى، وهناك تقابلت مع شقيقها، ووقفت أمام الحقيقة التي لم يخفها: "تامر عند رب العالمين"، صرختْ وهي تعلم الإجابة: "يعني شهـيد!؟".
تجلس في بيت العزاء تعاهد شهــيدها بدموع عينيها: "أوصاني أن يحفظ أبنائي القرآن، قبل قليل قلت له عندما دنوت من جثمانه: "أولادك بعيوني"، تعلق: "سأنتظره لآخر يوم في حياتي، وسألتقي به في الجنان".
ذكريات السجون
نشأت دويكات من نابلس، محرر عايش الكيلاني خلال اعتقالهما بين عامي 2012 – 2014، أفاق صباح أمس على خبر اغتيال صديقه، لم يكن الخبر مفاجئًا إليه، فصديقه وضع الاحتلال مجهر المطاردة عليه.
يستحضر بعضًا من ذكريات السجن لصحيفة "فلسطين": "كان متواضعًا بين الأسرى، طيب الخلق وطني، كان يكره السلام (التسوية) والمفاوضات، ويحب كل إنسان وطني، من أجمل من قابلتهم بالسجن، كان مثل الأخ، ومن أكثر الأسرى الذين كنت أجلس معهم في السجن، وكان يقول لي عن اعتقالاته المتكررة بسبب مقاومته للاحتلال: إنّ السجن لن يردعه عن طريق المقاومة".
صوت الكيلاني يطل عليه من الذاكرة: "كان يأتي إلى البرش (السرير) يطلب مني الإنصات لصوت أنشودة يحبها ومن كلماتها: ماتت قلوب الناس، ماتت بنا النخوة، يمكن نسينا بيوم إنه العرب أخوة، ويقول: إن "الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس".
نال دويكات الحرية قبل الكيلاني، وعندما أفرج الاحتلال عن صديقه ذهب لتهنئته، يستذكر: "طلبت منه أن ينتبه لنفسه، فرفض ترك طريق المقاومة ويصمم على المواصلة والمواجهة: "أنا بعقلش"، ثم اعتقله الاحتلال مرةً أخرى، وعندما أفرج عنه، ذهبت إليه وكان متزوجًا (زوجته شقيقة الشهيد محمد مرشود) وقتها كان حديث الزواج، كررتُ عليه نفس الطلب خوفًا عليه، لكنه رفض وقال لي: "تتعبش حالك، على الفاضي، أنا بعرفش أعيش زي هالناس".
عرف دويكات عن تامر أنه "حر لا يقبل حياة الذل"، ورغم كثرة الاعتقالات إلا أنه لم يتوقف عن طريق المقاومة، لكن استشهاد إبراهيم النابلسي، ووصيته للشباب من بعده بعدم ترك البارودة كان نقطة فارقة في حياة الكيلاني، صديقه كان شاهدًا على هذا التحول: "انضم لعرين الأسود ملبيًا وصية النابلسي".
أشغلته المطاردة والمقاومة عن زوجته وأولاده فلم يعش حياة طبيعية كما يعيش غيره من الآباء.
بعدما ظنّ الاحتلال أنّ الصغار سينسون باستشهاد واعتقال قادة الانتفاضة، عاد الكيلاني وأبطالٌ حفروا أسماءهم في قلوب الشعب الفلسطيني كعدي التميمي وإبراهيم النابلسي ورعد خازم وضياء حمارشة وغيرهم من الشهداء، وأعادوا البوصلة نحو القدس في وقتٍ ركن فيه الاحتلال إلى "الهدوء الخادع" ليستيقظ من وهمه على رصاص الثوار الذين أحيوا أمجاد الانتفاضة من جديد، كما عادت أيضًا أناشيدها الثورية لتصدح في جنازات الشهداء وشوارع المدن ومخيماتها: "كبروا الصغار يا جبل النار.. وصاروا ثوار".
المصدر/ صحيفة فلسطين