يَّما سامحيني، قالها، وبسرعة البرق ارتدى ملابسه فوق المياه التي بللت جسده أثناء الاستحمام، وغادر المنزل الذي وصل إليه للتو، قبل لحظات قليلة فقط كانت الابتسامة تعلو شفتيه، وكلماته الرقيقة تُغازل قلب والدته التي أعدت له طعامه المفضل.
كانت الأم تضع اللمسات الأخيرة لأطباق الأسماك التي أعدتها بكل حب لعبد الهادي، لتبدأ حينها أصوات الرصاص تعلو، وتعلو معها أنفاس عبدالهادي الذي ترك كل شيء، ولم يجد الوقت حتى لارتداء حذائه، فذهب مسرعا حافي القدمين يلاحق صوت الرصاص.
كانت قدماه مليئة بالدماء، وعيناه تنظران إلى السماء، والابتسامة تعود لتكشف عن أسنانه البيضاء، هذا هو المشهد الأخير الذي يبقى عالقًا في أذهان والدة عبدالهادي نزال الذي استشهد بتاريخ 12 يناير 2023 في بلدة قباطية جنوب مدينة جنين.
ميلاده واعتقاله
وُلد عبدالهادي في بلدة قباطية عام 2004 ولم يتمكن من إكمال دراسته، إذ انتقل مباشرة للعمل في محل –سوبرماركت- ليساعد والده في توفير مصروف البيت؛ لكن على مدار حياته الـ (18 عامًا) كانت فلسطين حُبلى بالأحداث الميدانية الساخنة، لا سيما في مدينته جنين، والتي أثرت على نفسيته وشكلت شخصيته القوية المليئة بالإرادة والتصميم لمواجهة الاحتلال.
تصدى عبدالهادي لاقتحامات من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي لمدينة جنين بالحجارة على مدار سنوات عدة، وقبل أن يحمل السلاح اعتقل عبدالهادي عام 2019 أثناء تنزهه على شاطئ البحر في الداخل المحتل.
وبسبب تصديه للمحتل بالحجارة، أصدرت محكمة الاحتلال ضد عبد الهادي حكمًا بالسجن خمس سنوات، وبعد الاستئناف تمكن المحامي من تخفيض الحكم إلى سنتين –وفقًا لوالده أبو محمد-.
وهناك بين أقبية السجون، والقضبان الحديدية، امتلأ قلب عبدالهادي بحب الوطن والتضحية من أجله، فكانت عيناه تراقبان حياة الأسرى الذين أمضوا سنوات عدة، ولم تضعف عزيمتهم ولم تنكسر إرادتهم في مواجهة الاحتلال.
آثر عبدالهادي بنفسه عن الملابس التي كانت تصله إلى السجن؛ فيرسلها إلى من هم أولى بها، حتى طعامه كان يقسمه بينه وبين الأسرى، فرغم عمره الصغير؛ إلا أنه صاحب قلب كبير، "تجاوز عبد الهادي حدود العطاء والإنسانية؛ فكان خلوقا، مطيعا، ضحوكا، لطيفا" كما وصفه والده.
إنسان آخر
خرج عبدالهادي من السجن عام (2021) إنسانًا آخر، فكلما جلس مع عائلته ورأى والده، أعاد لهم شريط الذكريات عام (2007): "أتذكرون كيف استشهد ابن عمي؟، أتذكرون كيف كان الاحتلال يقتل أبناء العائلة ويعتقلهم؟، أتذكرون كيف كان أبطال مخيم جنين يدافعون عن كرامتنا وعزتنا وشرفنا؟...".
أحداث كثيرة احتفظ بها عبدالهادي في ذاكرته، فكانت دافعًا قويًا؛ لينضم إلى المقاتلين في "كتيبة جنين"، اشترى السلاح وبدأ يترصد العدو، ويشحذ الهمم، ويدفع الناس للانضمام إلى الكتيبة التي أعادت مجد طوالبة وأبا جندل وغيرهم من قادة مخيم جنين.
حاول أبو محمد أن يدفع نجله للزواج وبناء بيت له؛ بسبب حبه الكبير لنجله؛ لكن عبدالهادي اتخذ قراره النهائي بالمضي على نهج المقاومة وطريق ذات الشوكة، وترك مشروع الدنيا، يقول والده: "لو جبنا كل الكون يحكي مع عبدالهادي على أن يُغير موقفه لن يثنيه ذلك عن الطريق التي اختارها".
يوم الشهادة العليا
يوم استشهاد عبد الهادي لم يكن يومًا عاديًا، فحينما تساقطت أشعة الشمس على الأرض كاشفة عن يوم جديد، استيقظت والدته وأعدت الطعام لزوجها، فعندما وصل مؤشر الساعة عند السادسة صباحًا غادر أبو محمد إلى عمله.
أسرعت الأم لتجهيز الإفطار لنجلها الثاني الذي تناول وجبته وغادر عند السابعة والنصف، وقبل وصول مؤشر الساعة إلى الثامنة كان عبدالهادي قد استفاق من نومه، في تلك اللحظات بدأت الأم بتجهيز إفطاره ووضعت الشاي على الغاز.
فجأة وصل لعبد الهادي اتصال من أبناء خاله، يعمل عندهم في محل –السوبرماركت-: "تعال بسرعة اعملنا فطور والكل بستناك بدناش ناكل إلا وانت معنا"، ضحك عبدالهادي ورد عليهم: "بدي اتناول الفطور مع أمي"، أصرَّ أصدقاؤه ليتناول الفطور، وهنا اضطر للاعتذار لوالدته عن الطعام والتي قالت له: "اذهب يا بني قلبي راضي عنك"، وبهذا يكون قد أضاع الفطور مع ست الحبايب.
الوجبة المفضلة
انتظرت الأم وصول نجلها للبيت طيلة ساعات النهار، وبعد العصر مباشرة بدأت تُعد الطعام المفضل لأبنائها وخاصة لعبد الهادي، "خبز ساخن، وأسماك طازجة"، ورائحة تفوح في الحارة، هكذا استقبلت أبناءها العائدين بعد ساعات شاقة من العمل.
ترك عبدالهادي ابتسامة رقيقة اقتحمت قلب والدته، وذهب مباشرة للاستحمام، في تلك اللحظة كانت والدته قد أعدت طاولة الغداء، وعندما انتهى أوصل شبكة الإنترنت على هاتفه النقال، وفجأة دون سابق إنذار أطلق لسانه: "سامحيني يا أمي، بدي أطلع ضروري"، لم تتمكن الأم من الإجابة على نجلها؛ لأنه غادر مسرعًا تاركًا طعام الغداء، ولم يتمكن أيضًا من ارتداء الحذاء.
يلا نروح على المستشفى
أما والده أبو محمد ما زال في عمله لتركيب (الرخام)، وفجأة جاء أحد العمال وقام بوضع آلة شفط الغبار على جسد أبي محمد وقال له: "غير ملابسك بدنا نطلع"، وين بدري: "بدنا انروح على المستشفى ابنك عبدالهادي مصاب بالرصاص".
تفاجأ أبو محمد من الخبر حتى وصل إليه زميلٌ آخر، وقال له: "يالله يا أبو محمد بدنا نطلع على المستشفى"، بُسرعة البرق وصل أبو محمد وزملاؤه في العمل إلى المستشفى الحكومي، وهناك كانت الروح ما زالت معلّقة في جسد عبدالهادي.
دقائق معدودة كانت كفيلة لأن تصعد روح عبدالهادي إلى بارئها، وتبقى صورة الجسد معلقة في الذاكرة، ابتسامة مرسومة على وجه العريس، ورائحة المسك تفوح من جسده الطاهر.
يتفاجأ أبو محمد والد الشهيد عبدالهادي من سيرة نجله، حيث يسمع كلامًا جميلًا ومميزًا عن أخلاقه في بلدة قباطية إذ يقول: "الناس ابتعرف عبدالهادي أكثر مني، وبتحكيلي عن احترامه واخلاقه وصفاته بشكل كبير جدًا"
وعلى الرغم من أن الابن غالي على قلب والده؛ إلا أن أبا محمد قال: "عبدالهادي مش خسارة في فلسطين؛ فهو شهيد للأمة الإسلامية والعربية، رحمه الله كان محبوبًا وإنسانًا طاهرًا عفيفًا".