بدأت عديد الدول في الإقليم، إضافة إلى حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية في اختراق هذا العالم السرّي، والذهاب باتجاه ما كان ممنوعاً في أوقات سابقة.
في الحروب الكلاسيكية تجري المعارك بين جيوش الدول المتصارعة في مسرح عمليات واضح ومحدّد، حيث يمكن إبراز خطوطه الأمامية والخلفية على الخريطة من دون أي عناء.
صحيح أن هذه الخطوط يمكن أن تتغيّر وتتبدّل نظراً لتقدّم هذا الطرف أو ذاك، وصحيح أن أحد الطرفين يمكن أن يتجاوز الخطوط الأمامية وحتى الخلفية للطرف الآخر، وربما يسيطر على كامل منطقة العمليات، إلا أن ذلك يبقى في إطار تلك الحرب، حيث تظهر معظم التفاصيل الصغيرة بكل تجلّياتها، وتبدو كل التحركات واضحة من دون أي مواربة.
في حروب الاستخبارات تختلف الصورة جملة وتفصيلاً، إذ إنها تُخاض في مسارح عمليات مُعتمة، لا تكاد ترى لها شكلاً، أو تسمع لها صوتاً، وفي معظم الأحيان يُكشف عن خباياها بعد سنين طويلة، وفي أحيانٍ أخرى بعد موت أبطالها، وذهاب تداعياتها.
وقد تطوّرت حروب الاستخبارات بشكل مُلفت في الثلاثين سنة الأخيرة بعد النهضة العلمية والتكنولوجية الهائلة، إذ إنها أصبحت تُدار بحرفية عالية، ومن خلال تكنولوجيا متطوّرة للغاية، وتخضع لإجراءات فنية وتقنية تكاد تكون فريدة من نوعها، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالدول الكبرى، والتي تملك إمكانيات لا تكاد تُصدّق، ما يمكّنها من اختراق العديد من الساحات، والسيطرة والاستحواذ على كم هائل من المعلومات.
ولكن رغم تلك الحداثة، وهذ التطوّر الكبير، إلا أن أحد أهم الأساليب التي اعتمدت عليها أجهزة الاستخبارات في العالم منذ عشرات السنين بقي على حاله حتى الآن، وما زالت أعتى تلك الأجهزة تعتمد عليه بشكل أساسي لجمع ما تسعى وراءه من معلومات، وتحصيل ما ترغب به من بيانات. هذا الأسلوب القديم الجديد هو تجنيد العملاء والجواسيس في صفوف الطرف الآخر، بحيث يقومون بتنفيذ مهامهم عن قرب، ويجمعون الكثير من المعلومات من المصدر مباشرة، من دون الحاجة إلى طائرات استطلاع تجسّسية، أو أقمار اصطناعية، أو أجهزة تنصّت إلكترونية.
في عالم الظل هذا كانت "إسرائيل" تتفوّق على كل خصومها، ما مكّنها من التقدّم عليهم بخطوة أو أكثر في كثير من الأحيان، حيث نجحت في عديد المرات من زرع عيونها وجواسيسها في كثير من البلدان، مستخدمة في ذلك مروحة واسعة من الإمكانيات البشرية، ومستغلة الوضع المزري الذي كانت تعيشه معظم البلدان العربية والإسلامية. ليس هذا فحسب، بل ذهبت أبعد من ذلك فزرعت عملاء وجواسيس داخل البلدان الحليفة لها، وفي المقدّمة منها الولايات المتحدة الأميركية، الحليف الأوثق للكيان الصهيوني على مستوى العالم.
هذا الحال تغيّر بشكل واضح وملموس خلال السنوات العشرين الأخيرة تحديداً، إذ بدأت عديد الدول في الإقليم، إضافة إلى حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية في اختراق هذا العالم السرّي، والذهاب باتجاه ما كان ممنوعاً في أوقات سابقة، وقامت بكثير من العمليات التي استهدفت اختراق المجتمع الصهيوني من الداخل، وتجنيد عملاء وجواسيس لها في قلب الدولة العبرية، ما عُدّ بأنه تطوّر مهم وحيوي، ساهم في كسر جزء من الخطوط الحمراء التي كانت ترفعها "إسرائيل" على الدوام في وجه أعدائها.
نظرة إسرائيلية متشائمة
بناء على التجربة الإسرائيلية الغنيّة في مجال زراعة العملاء والجواسيس في أوساط الدول والجماعات الأخرى، ولمعرفة أجهزة استخبارات العدو بالقيمة العالية لهؤلاء العملاء، والذين تمّ وصفهم كما ذكرنا في الجزء السابق من هذا المقال بأن أحدهم يساوي كتيبة عسكرية بكاملها، فإن النظرة الإسرائيلية لعمليات اختراق المجتمع الإسرائيلي، وتجنيد بعض أفراده لصالح دول وجماعات معادية، تكاد تكون متشائمة ومتخوّفة إلى أبعد الحدود، إذ إنّ التأثيرات والتداعيات الناتجة عن ذلك تكاد تكون كارثية، وتحمل في طياتها تهديدات عديدة ومخاوف جمّة، حيث أصبح باستطاعة الأطراف المشغّلة لأولئك العملاء تشكيل تهديد جدّي لدولة الاحتلال، ولمصالحها في الداخل والخارج على حدٍّ سواء.
لذلك حاولت "إسرائيل" وضع ضوابط وأسس حازمة للتعامل مع الحالات التي يثبت تعاملها مع جهات أجنبية، وخصوصاً تلك التي تتبع لمحور المقاومة، والتي يمكن أن تشكّل المعلومات التي تحصل عليها خطراً حقيقياً على أمنها القومي على خلاف دول إقليمية وعالمية أخرى، تسعى لجمع المعلومات الاستخبارية لأهداف أخرى جزء منها اقتصادي بحت.
وقد تمّ بحسب القانون الإسرائيلي اعتماد تعريف واضح للأشخاص الذين يقدّمون معلومات أمنية لأعداء "الدولة"، إذ تمّ إطلاق مصطلح "الجواسيس" على كل من ينقل معلومات لأطراف أجنبية بقصد الإضرار بأمن "إسرائيل"، وكذلك على الأشخاص الذين حصلوا على تلك المعلومات، أو جمعوها، أو أعدّوها، أو كتبوها، أو حجبوها. حيث عرّف قانون العقوبات لسنة 1977 "التجسس" بأنه عبارة عن عملية جمع للمعلومات، ونقلها إلى شخص غير مرخّص له بقصد الإضرار بأمن الكيان الصهيوني.
وقد حاولت العديد من المراكز البحثية الإسرائيلية المختصة الوصول إلى الدوافع الحقيقية لتعامل البعض من سكان "الدولة" مع جهات أجنبية، ولا سيما مع حزب الله، وتقديم معلومات حسّاسة قد تؤدي إلى نتائج خطيرة، حيث خلصت إلى تحديد أربعة دوافع أساسية، كانت السبب الرئيسي في انخراط البعض في ارتكاب هذا "الجُرم" الخطير.
أسباب ودوافع
رغم أنّ الاستخبارات الإسرائيلية تقول إنّ ما تمّ كشفه من عملاء يعملون لصالح حزب الله في الفترة الواقعة بين عامي2000 إلى 2021 لم يتجاوز الـ 41 رجلاً وامرأة، وإنّ تأثير أولئك العملاء كان محدوداً، ولم يؤدِّ إلى تداعيات صعبة على منظومة الأمن الإسرائيلية، إلا أن هذا الأمر قد كشف بما لا يدع مجالاً للشك حقيقة وجود خلل داخل المجتمع الإسرائيلي، وأنه بإمكان العديد من الجهات "المعادية" استغلال هذا الخلل للنفاذ إلى قلب هذا المجتمع، وبالتالي إلى قلب "الدولة"، ومحاولة الحصول على معلومات استخبارية قد تكون حاسمة في مرحلة ما.
وقد كشفت بعض التحقيقات التي تمّ نشرها مع المتهمين بالتجسّس لصالح حزب الله، وآخرين تمّت إدانتهم بالتعامل مع جهات أخرى، من بينها الجمهورية الإسلامية في إيران، وفصائل المقاومة الفلسطينية، عن الأسباب الرئيسية التي دفعتهم للذهاب باتجاه هذا الخيار، وقبول التعامل مع جهات لطالما اعتبروها معادية لأمن دولتهم ومجتمعهم، حيث توافقت تلك الأسباب والدوافع مع نظيراتها في كل دول العالم، وهي تكاد تكون الدوافع نفسها التي تستغلّها أجهزة الاستخبارات العالمية والإقليمية، أو تلك التابعة للدول الصغيرة، إضافة إلى المنظّمات والجماعات السرّية.
أولاً: الأيديولوجيا
غالباً ما يُعرَّف الدافع الأيديولوجي بأنه أقوى دافع قد يؤدّي إلى انخراط شخص ما للتجسّس ضد دولته، إذ أنه يُعتبر من الدوافع القائمة على الشعور بالالتزام الأخلاقي الذي يشعر فيه الشخص بالحاجة الحقيقية للانخراط في التجسس، حيث يتضمّن آراء الجاسوس ومعتقداته، والتي يظنّ من خلالها بأنه يفعل الشيء الصحيح لصالح قضية يريد النهوض بها. ويمكن لهذا الدافع أن يجعل العميل يستمرّ في تقديم خدمات لجهات خارجية حتى آخر عمره من دون أن يفكّر في التراجع أو التوقّف، حيث أن المعتقدات والأفكار لا تسقط بسهولة رغم تقدّم الزمن، ويمكن لها أن تبقى عالقة في أذهان أصحابها حتى النهاية.
ثانياً: المكافآت
تنقسم المكافآت إلى عدة أنواع، منها المادية وهي أكثر انتشاراً من غيرها، حيث يحصل الجاسوس على مقابل مادي مجزٍ، وفي أحيان أخرى منخفض، ولكنه يساعد في تجاوز ما يعانيه من مشاكل مادية، وفي بعض الأحيان تكون مكافآت معنوية، وفي أحيان أخرى تتركّز حول تقديم خدمات وتسهيلات معينة في مجالات العمل والتجارة وغير ذلك. إلا أنه على مستوى الاستمرارية يُنظر لهذا الدافع بأنه قصير المدى ويفتقد للاستقرار، على الرغم من كونه شائعاً جداً، لأنّ العميل يعتقد أحياناً أن حجم الضرر المحتمل للتجسس والخوف من الإمساك به يفوق ما يحصل عليه من مزايا مالية، إضافة إلى أنّ بعض المشغّلين لا يدفعون في كثير من الأحيان ما يطلبه الجاسوس، وهنا تنشأ أزمات عديدة يمكن أن تنتهي بفسخ العلاقة بين الجانبين.
ثالثاً: الانتقام
وهو من أهم الدوافع التي قد تجعل الكثير من الأشخاص يتجّسسون على دولهم، ولا سيما أولئك الذين تعرّضوا لظلم ما من أجهزة الدولة، أو شعروا بتقصير الدولة تجاههم، أو تجاه عوائلهم، وهذا الأمر يمكن أن يكون أكثر وضوحاً في الدول التي تحكمها أنظمة فاسدة ومستبدّة، بحيث يسعى بعض المواطنين للانتقام من النظام، والثأر منه نتيجة ما ارتكب ضدهم من انتهاكات وجرائم.
رابعاً: العامل النفسي
وهذا العامل تحديداً يُنظر إليه لدى أجهزة الاستخبارات بأنه خطير للغاية، حيث أنه قد يدفع صاحبه للذهاب بعيداً في عالم الجاسوسية، ولا سيما إذا تم التركيز على مشاكله النفسية من قبل الجهة المشغّلة، واستغلالها بالطريقة المثلى. ومن أهم الحالات في هذا الجانب الأشخاص الذين يشعرون بقلق مبالغ فيه تجاه مشاكلهم الشخصية، أو أولئك الذين لديهم شعور حول ضرورة إرضاء أو مساعدة الآخرين، وكذلك الذين لديهم مشاكل في الأنا، واضطرابات الشخصية، والسلوكيات المعادية للمجتمع، أو الذين يعانون من إعاقة عقلية، إضافة إلى الشخصيات النرجسية وغير الناضجة.
وفي بعض الأحيان قد لا تقتصر دوافع الرغبة في التجسس على دافع واحد فقط، وإنما يشترك أكثر من دافع في تقوية تلك الرغبة، إذ إن الكثير من الحالات تعتمد على دافعين اثنين، مثل الأيديولوجيا إلى جانب المكافأة، أو الدافع النفسي المرتبط بالانتقام.
حزب الله والاستخبارات البشريّة
بحسب الكثير من التقارير الإسرائيلية فإن حزب الله قد نجح في حربه الاستخبارية ضد العدو الصهيوني بشكل مميّز ومثير، واستطاع أن يحقّق إنجازات على أكثر من صعيد في هذه الحرب المعقّدة والقاسية، كنا قد أشرنا إلى جزء منها في الحلقة الماضية، ومن ضمن هذه الإنجازات نجاحه في اختراق المجتمع الصهيوني من الداخل، وتجنيد بعض أفراد هذا المجتمع للعمل لديه كجواسيس ومتعاونين فيما يُعرف اصطلاحاً بـ "الاستخبارات البشرية"، والتي تعني حصول طرف ما على معلومات استخبارية من خلال أشخاص تمّ تجنيدهم لهذا الغرض، وليس من خلال التجسس الإلكتروني أو السمعي والبصري، وغير ذلك من طرق جمع المعلومات.
ورغم عديد الأبحاث التي تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل، والتي حاولت الإجابة على الكثير من الأسئلة التي أُثيرت حوله، إلا أن معظم المعلومات المتعلّقة به ظلت حبيسة أدراج أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ولم يخرج إلّا جزء يسير منها لوسائل الإعلام، وهذا الأمر فسّره بعض الخبراء الأمنيين في الدولة العبرية تحديداً بأنه ناتج عن عدم وجود ما يمكن أن تفاخر به تلك الأجهزة، وأن جهودها في مجال الاستخبارات المضادّة، والتي تسعى من خلالها لكشف المتعاونين مع حزب الله لم تسفر عن نتائج ذات قيمة، وبقيت في إطار منخفض نسبياً قياساً على النتائج التي حقّقتها في ملفات أخرى أكثر تعقيداً وخطورة.
وبالرجوع إلى آخر دراسة إسرائيلية أجريت حول هذا الموضوع، نجد أنّ حزب الله قد وسّع من قائمة أهدافه التي يحاول جمع المعلومات عنها داخل فلسطين المحتلة، حيث أنه لم يكتفِ بجمع المعلومات عن المناطق الشمالية من فلسطين المحتلة فقط، ولا عن المواقع العسكرية القريبة من الحدود ونقاط المراقبة المتقدّمة فحسب، بل إنه سعى للحصول على معلومات ذات قيمة عالية عن البنية التحتية الإسرائيلية بشقّيها المدني والعسكري، إضافة إلى القواعد العسكرية البرية والجوية والبحرية، وعن مهابط الطائرات الحربية والمروحية، وعن القواعد الرئيسية للطائرات المسيّرة، إضافة إلى قواعد قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي، وكذلك على معلومات سياسية واجتماعية متنوّعة، بقصد معرفة المزاج العام في "إسرائيل"، إلى جانب التركيز على الوضع الاقتصادي للدولة، ومدى تأثير تراجع الاقتصاد في فترات معينة على تماسك الدولة، واستقرار نظامها السياسي.
وبحسب الدراسة أيضاً فقد سعت استخبارات حزب الله للحصول على معلومات دقيقة حول أوضاع الجبهة الداخلية في أوقات الحرب، ولا سيما في السنوات العشر الأخيرة، والتي شهدت أكثر من خمس حروب مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، حيث حرصت استخبارات الحزب اللبناني على معرفة أماكن سقوط الصواريخ، ومدى الضرر الذي أحدثته في البنية التحتية الإسرائيلية، ومدى تأثير ذلك على الحالة المعنوية للمستوطنين الصهاينة.
ورغم أن معظم الذين تمّ اتهامهم بالتجسّس لمصلحة حزب الله كانوا من العرب، حيث قاموا بذلك العمل انطلاقاً من خلفيتهم القومية التي حافظوا عليها رغم محاولات السلخ والتغريب، إلا أن هناك أيضاً العديد من اليهود قاموا بتقديم معلومات مهمة وحسّاسة لحزب الله، كان من بينهم ضابط في الجيش برتبة مقدّم، وآخرون عملوا في مناطق لا يحقّ للعرب دخولها، أو حتى الاقتراب منها.
أرقام وإحصائيات
بالرجوع إلى بعض القضايا التي نُظرت أمام المحاكم الإسرائيلية وهي قليلة ومحدودة، نجد أن هناك تفاوتاً في التهم بين من قدّم معلومات بقصد الإضرار بأمن "الدولة" عن سبق إصرار وترصّد، وبين من قدّمها وهو يجهل الجهة التي ستستفيد منها. إضافة إلى ذلك لم تكن واضحةً المدد الزمنية التي عمل من خلالها أولئك المتهمون لمصلحة حزب الله، إذ تمّ الكشف فقط عن السنوات التي تم تجنيدهم فيها، فيما بقيت سنوات اكتشاف أمرهم طي الكتمان.
فعلى سبيل المثال تقول إحدى الإحصائيات إن حزب الله نجح في العام 2000 في تجنيد 5 عملاء، وفي العام 2001 ارتفع العدد إلى 10، فيما بلغ عدد الذين تم تجنيدهم في العام 2010 سبعة عملاء، أما في عام 2019 فتقول الإحصائية إن عدد المجنّدين الذين تم اكتشافهم انخفض إلى واحد فقط، وهذا يعود كما يقول البعض إلى عدم تمكّن أجهزة استخبارات العدو من كشف العدد الأكبر من العملاء نتيجة ما بات يستخدمه الحزب من إجراءات أمنية للحفاظ على سلامتهم وسريّة عملهم.
أما على صعيد طرق التجنيد، فتشير الإحصائيات إلى أنّ مبادرة التجنيد الأولى جاءت من قِبل "العملاء الإسرائيليين"، إذ تبيّن أن نسبة 60% من المتهمين بادروا بالاتصال بحزب الله، وعرضوا خدماتهم عليه من خلال طرق متعددة، كان من أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي، ومواقع الإنترنت. أما الحالات الأخرى التي بادر فيها حزب الله بالاتصال بإسرائيليين بغرض تجنيدهم فكانت أثناء وجودهم في دول أجنبية بغرض الدراسة أو العمل وغير ذلك.
على مستوى طرق الاتصال تُبيّن الإحصائيات أن التواصل بين ضباط استخبارات حزب الله والمجنّدين الإسرائيليين كان في معظمه يتم في المنطقة الحدودية الفاصلة بين فلسطين المحتلة ولبنان، باستثناء بعض الحالات التي تم فيها اللقاء بين الجانبين في دول أجنبية، مثل الدنمارك وبولندا وألمانيا وتركيا، فيما سافر آخرون ولا سيما من العرب إلى دول عربية، من ضمنها المغرب والمملكة العربية السعودية خلال موسم الحج، وهناك حالات دخل فيها المجنّدون إلى الأراضي اللبنانية، فيما لم تسجّل أي لقاءات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أما فيما يخصّ الوظائف التي شغلها المجنّدون لصالح حزب الله فقد تنوّعت بين العمل العام والخاص، حيث أن خمسة من أولئك المجنّدين كانوا يخدمون في جيش الاحتلال، من بينهم ضابط برتبة عقيد، فيما عمل الآخرون في مجالات مختلفة، إذ كان من بينهم طبيب، وموظف في المكتبة الوطنية، وسكرتير مدرسة، وأستاذ جامعي. أما الذين عملوا في القطاع الخاص فتوزّعوا بين طلاب جامعيّين في تخصصات الطب، والتمريض، والقانون، وموظف في "كيبوتس"، وميكانيكي سيارات، وعمّال في وظائف فردية.
نماذج وشواهد
على الرغم من أن معظم المحاكمات التي جرت للمدانين بتهمة التجسس لصالح حزب الله أُجريت وراء أبواب مغلقة، وبعيداً عن أعين وسائل الإعلام، نظراً لحساسية الموضوع، وكي لا ينعكس الأمر سلباً على سمعة وكفاءة الأجهزة الأمنية في دولة الاحتلال، إلا أن بعض تفاصيل تلك المحاكمات قد خرج إلى العلن وإن بطريقة غير مباشرة، ومن دون إعلان رسمي من القضاء الإسرائيلي، أو الأجهزة الأمنية المختصة.
إحدى هذه المحاكمات جرت لضابط بدوي في جيش الاحتلال برتبة عقيد اسمه عمر الهيب، وهو من بلدة بيت زرزير، حيث أُدين بالعمل لصالح حزب الله منذ العام 2002، وبأنه قام بتزويد الحزب بمعلومات عن تحركات قائد المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال، وعن مواقع الدبابات قرب المناطق الحدودية مع لبنان، إضافة إلى بعض القواعد الجوية ونقاط المراقبة في المنطقة نفسها.
محاكمة أخرى جرت لفتاة يهودية اسمها دوريت إدري من كريات شمونة، والتي نفذّت مهام تجسّسية لصالح حزب الله من العام 2001، حتى العام 2004، حيث زوّدت الحزب بمناظير ومعدات رؤية ليليّة، وقامت بتصوير قواعد عسكرية، إضافة إلى تصوير مناطق عسكرية في كريات شمونة، وغوش حالاف، وجبل ميرون، ومنطقة مرغليوت، ومنارة كليف، ومراكز تسوّق مختلفة.
مجنّد ثالث تمّت محاكمته بتهمة التجسّس لمصلحة حزب الله هو تشارلي بيرتس من سكان كريات شمونة أيضاً، حيث عمل في الفترة ما بين عامي 2000 إلى 2004، وتركّزت مهمته حول معرفة المزاج العام للمستوطنين في المناطق القريبة من الحدود الشمالية، إضافة إلى نقل بعض الأسلحة عبر الحدود لصالح مقاتلي الحزب.
المجنّد الرابع الذي تمت محاكمته كان عصام مشهرة من مدينة القدس، والذي بحسب الادعاء الصهيوني تمكّن من التقاء ضباط استخبارات حزب الله في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث قام بتحديد بعض الأماكن الحسّاسة الواقعة في المدينة المقدّسة، مستخدماً خرائط طبوغرافية معدّة خصيصاً لهذا العمل.
فجوات وثقوب
على الرغم من أن معظم الأشخاص الذين جنّدهم حزب الله للحصول على معلومات من داخل "إسرائيل" قد تمّ اكتشافهم خلال مدة قصيرة نسبياً كما تقول المصادر الإسرائيلية، حيث أن أطول فترة زمنية استغرقها الكشف عن جاسوس يعمل لصالح الحزب لم تتجاوز الـ 6 أعوام، إلا أن هذا الأمر من وجهة نظر الكثير من المختصين يُعتبر فشلاً ذريعاً للاستخبارات الإسرائيلية، إذ إنّ حجم ونوعية الإمكانيات المادية والبشرية التي تملكها تلك الأجهزة تحتّم عليها تحقيق إنجازات واضحة وملموسة في وقت أسرع من ذلك بكثير، خصوصاً في ظل أهمية المعلومات الاستخبارية التي يمكن أن يجمعها عميل واحد حتى لو عمل لمدة شهر واحد فقط.
وقد أُثير مؤخراً سؤال أساسي عن نوعية "الاستخبارات المضادة " التي تستخدمها الأجهزة الإسرائيلية للتصدّي لظاهرة العملاء والمجنّدين الذين يعملون لمصلحة جهات خارجية، وهل ثمة فجوات حقيقية تؤثّر على فعالية تلك الإجراءات، أم أن الأمر متعلّق بزيادة نجاعة الأجهزة الاستخبارية المعادية، وامتلاكها لإمكانيات وخبرات لا تقل كفاءة عن تلك التي تملكها نظيراتها الإسرائيلية.
وقد تبيّن من إحدى الدراسات الصادرة حديثاً حول هذا الموضوع بالذات، أن الموارد والإمكانيات البشرية والمادية الموجودة تحت تصرّف أجهزة استخبارات العدو، ولا سيما على صعيد الاستخبارات المضادة ومكافحة التجسس لا تتوفّر لأي من أعدائها، وأن هذه الأجهزة لا تعاني من أي نقص على مستوى التدريب والتوظيف، أو على مستوى الأجهزة التكنولوجية الحديثة، والتي يتم الاعتماد عليها بشكل أساسي في عمليات المراقبة والتنصّت ضد من يُشتبه بتعامله مع جهات أجنبية، غير أنها تعاني من إخفاق واضح في فهم طريقة عمل الأجهزة المعادية.
إضافة إلى فشلها في تكوين قاعدة بيانات أساسية حول طريقة عمل تلك الأجهزة، والإمكانيات والأدوات التي تستخدمها، ولا سيما جهاز استخبارات حزب الله، والذي تُجمع الكثير من المصادر الإسرائيلية على أنه لا ينبغي الاستهانة به، أو التقليل من جودة عملائه، والذين باتوا يتمتّعون بحسب تلك المصادر بمهارات مهنية عالية المستوى، اكتسبوا جزءاً مهماً منها من التدريب المكثّف الذي تلقّوه في الخارج على أيدي ضباط استخبارات الحزب.
تتركّز مهمة أجهزة الاستخبارات سواء تلك التابعة للدول، أو مثيلاتها في التنظيمات والجماعات الأصغر حجماً حول مهمة واحدة تقريباً، وهي جمع المعلومات عن الطرف الآخر بقصد التعرّف إلى قدراته وإمكانياته، في شتى المجالات والمستويات، إضافة إلى محاولة تحديد نقاط القوة والضعف لديه، بما يسمح بوضع الخطط العملياتية المناسبة لمواجهته والانتصار عليه.
ورغم أن هناك فجوة كبيرة على صعيد الإمكانيات والقدرات بين الجانبين تصبّ في صالح الدول الغنية والكبيرة، إلا أنهما يكادان يستخدمان الأساليب نفسها، ويلجآن إلى الأدوات نفسها في طريقة جمع المعلومات، والحفاظ عليها، ومن ثم إيصالها إلى الجهات المختصة.
في المواجهة الاستخبارية بين حزب الله والكيان الصهيوني، والتي تأخذ أشكالاً عديدة، وتستخدم أدوات شتّى، لم نستطع الإشارة إلى كثير منها لحساسيّة الموضوع وخطورته، فإنه يبدو أن إمكانيات الحزب اللبناني، وقدرته على تجنيد وتشغيل العملاء في الداخل الصهيوني قد ارتفعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، وأن البدايات التي اتّسمت بالتسرّع وافتقاد الخبرة في بعض الأحيان ما ساعد العدو الإسرائيلي في اكتشاف العديد من المجنّدين، قد أصبحت الآن أكثر احترافية وعقلانية، وهو الأمر الذي يفسّره انخفاض عدد القضايا المنظورة أمام القضاء الصهيوني والمتعلّقة بأشخاص يعملون لصالح الحزب.
وبذلك يمكن لنا أن نقول، إنّ تجربة حزب الله في هذا المجال والتي لم يُكشف إلا عن جزءٍ يسير منها، قد نجحت في قطع شوط كبير لناحية تحقيق اختراق أوسع وأكثر تأثيراً في الجانب الصهيوني، وإن هذه التجربة يمكن أن تشكّل نموذجاً يُحتذى به لدى كل فصائل المقاومة في الإقليم ولا سيما الفلسطينية منها، والتي تقف في خط المواجهة الأول والأكثر تأثيراً على مستوى المنطقة.